بداية أنوه إلى أن المقصود في هذه القراءة هما فئتان: الأولى أولئك الذين أغرقوا الشعر العربي في بحر من الطلاسم، واعتقلوه في أقبية الغموض ودهاليزه، وجردوه من تقنياته "بحوره وأوزانه وقوافيه"، فأصبح مطية سهلة الامتطاء، بعدما كان ذلك الجواد العربي الأصيل. أما الثانية أولئك الذين أخرجوا الإبداع الشعري من دائرة الصراع مع العدو، بحجة إدخاله إلى آفاق الحداثة والتحديث والعصرنة والأنسنة والعولمة.
لا يمكن الخوض في الشعر العربي المعاصر بكل أبعاده واتجاهاته في منأى عن التيارات الثقافية والطروحات التغييرية لشتى مناحي الحياة العربية التي يتعرض لها العالم العربي، وبخاصة تلك التي تهب عليه من خارج حدوده الجغرافية.
إلا أن الشعر العربي يظل بصورتيه التاريخية الأصالية المتوارثة، وتلك التي طرأت عليها المتغيرات الحداثية بكل ألوان طيفها، يظل الميدان الثقافي الأكثر ولوجًا، والساحة الإبداعية الأشد احتدامًا وعراكًا ونزالًا، كونه توأم للوجدان العربي، ومستودع لإفرازات كافة أشكال استجابات هذا الوجدان لتحديات الوسط الطبيعي السياسي الاجتماعي العقائدي الذي يدور في مداره.
رميو: الرجل الذي عشق ذاته
إذا أردنا تصوير الأمر بلغة عصرنا، فإن روميو ضغط بزر الفأرة الأيمن على "روزالين" وأودعها سلة المهملات. ثم ضغط على السلة مجددا وفرّغها من أي أثر لهذه التي كواه عشقها وصدها. كيف حدث ذلك؟ وهل يتخلى الإنسان عن تعلقه بهذه السهولة والسرعة؟ رجل من فصيلة "رميو"، يمكن له ذلك وبسهولة جدا.
كان روميو المكتئب في حفلة يلاحق روزالين العصيّة التي لا تمحضه الحب بتاتا. يحاول روميو اقتناص نظرة لروزالين لعل وعسى، فيحدث أمر هام يجعل روزالين نسيا منسيا؛ "جولييت"! وجد روميو امرأة جميلة، وتحمل ذات القدر من "التحدي". امرأة يمكن أن يصفع روزالين بها.
أحببت أن أعلق على هذا الكتاب الهام للشاعرة جمانة حداد لسببين: أهميته، وكونه يسلط الضوء على جانب مظلم في الشعر المعاصر خاصة الشعر العربي، حيث تبقى حياة بعض الشعراء طلاسم يصعب على قارئ الشعر فك خيوطها، وفي ثقافتنا العربية ميل كبير إلى التعتيم حتى لقد ألفنا حياة العتمة وتعودنا عليها فأصبحت قيمة من قيم حياتنا الفكرية. وكتاب جمانة حداد من الكتب التي تضيف رصيدًا إلى مكتباتنا، فلقد بذلت الكاتبة الشاعرة جهدًا مميزًا، وحسبك أنها أتت على قرن كامل من الشعر في الشرق والغرب تترجم لحياة الشاعر وتثبت نتفّا من أشعاره من لغتها الأم وهو جهد مضاعف قامت به مع بكل تقدير.
وهؤلاء الشعراء من القرن العشرين قد اختاروا أن يرحلوا بإرادتهم لأسباب عدة خاضت الكاتبة في تفاصيلها، فكشفت الستار عن كثير من الغامض والمبهم، واصطنعت عنوان قصيدة لشاعر إيطالي رحل بإرادته كذلك، وهو "تشيزاري بافيزي" 1908/1950 عنوانًا للكتاب، وعنوان قصيدته: "سيجيء الموت وستكون له عيناك"، وكنت في إحدى مقالاتي في كتاب "وهج الأربعين" قد عرجت على هذه الظاهرة وتحديدًا في مقالة "بيدي لا بيدك عمرو" كنت قد عرجت على ظاهرة الانتحار في أدبنا الحديث، وذكرت في جملة من ذكرت الشاعر أحمد العاصي وصالح الشرنوبي من مصر، والشاعر الكبير خليل حاوي من لبنان.
كل عام وأنتم بخير وعيد مبارك وسعيد على الجميع.
كلُّ ما يعْرف عن المتنبي تلك الولادةُ البائسةُ في أسرةٍ فقيرة نبت فيها، وترعْرَعَ في الفقر دون أن ينقطع رجاءُ الأملِ والطموح، فإذا به يحمِلُ على كتفه همومَ الواقع المرِّ ويأمَلُ بالهدفِ المنشودِ، يحدوه الأمل وتحيط به إرادةٌ وعزيمة صلْبة.
إنَّ سرَّ مكانة المتنبي يكمن في تلك الروح الوثابة والنفس الأبية التي رضعتِ العظمةَ وحبَّ المجد ، وسَعَتْ إلى الرفعةِ، فوجدت ضالَّتها في شخص سيف الدولة الحمداني حامي حصون العرب ودافع كيد الروم، فالدخول إلى عالم المتنبي بحرٌ متلاطِمُ الأمواج عميق الأغوار، لا نستطيع الغورَ فيه إلا بمعرفة أسرارِ شعره والتعمُّقِ في معانيه وفهم المرادِ منه، فأشعاره ترسم صورةً عن شخصيته وتبرز حكمته وموقفه من الحياة والناس، فالشعر مرآة لصاحبه ومرآةٌ للعصرِ، وشعر المتنبي يرسم أبعادَ شخصيته وهذا ما يهمُّنا ونسعى إليه.
لا تُخْفى الحقيقةُ عن أحدٍ بأن شخصية المتنبي كإنسان وسلوكٍ وحكمَته متلاحمتان دون انفصام، فنادرًا ما نجد بيتًا من حكمه دون أن يدلَّ على سلوكه الشخصي ومبدئه في الحياة. لقد رسم المتنبي أبعادَ شخصيته من خلال معايشته للناس وخبرته في الحياة، فإذا به يستنبط نظراتٍ ومواقفَ خاصةً في حياته. أليس هو القائلُ في الذي تطبَّعَ على الأذى والكره:
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ * يجدْ مرًَّا بهِ الماءَ الزلالا
الصفحة 12 من 45