بالأمس القريب، فقد الفلسطينيون في الوطن والشتات ابن فلسطين البار إبراهيم محمد صالح المعروف بأبي عرب، ذاك الشاعر الشعبي الثائر الذي أمضى جلّ حياته لاجئًا، كغيره من الملايين الفلسطينيين .
لكنّ أبا عرب لون آخر من الناس، أظمته الدنيا كما قال المتنبي، فلما استسقاها مطرتْ عليه وعلى شعبه مصائبًا. فشهد نكبة فلسطين الكبرى 1948م، وطُرِدَ من قريته الشجرة بين الناصرة وطبرية، واستشهد والده في معارك النكبة، وخرج الفتى يجرّ خطاه نحو لبنان ثم سوريا، رأى بأمّ عينيه كيف يُسلب الوطن، ويستشهد أبطاله، ويُنفى شيوخه ونساؤه وأطفاله، فبقيت عيناه تحملان حزناً دفينًا، وبقي صوته الهادر يستمد حنينه وأنينه وهمسه وجهره من القرى والبلدات والمدن التي استولى عليها المحتلون.
وحين فاض كأسه حنينًا وشوقًا أخذ صوته يلهج بالوطن السليب، يبثّ الأمل في النفوس، ويزرع العزيمة الصلبة، ويصبّ نيران غضبه على الغاصبين، وهو بين ذلك كله يصارع معاناة اللجوء والمنفى، ويستمد من وجع الفقراء في المخيمات لوحات فنية رسمتها ريشته أهازيج وأغاني طالما صدحت بها الإذاعة الفلسطينية من القاهرة وبغداد زمنا طويلاً.
إن التجربة المسرحية نافذة رحبة لفضاء التغيير المواكب والمبتكر في فنون المسرح، ويعلم المسرحيون أن ما من مدرسة أو أسلوب في صناعة المسرحية إلا وكان ناتجا عن تلك المحاولات الجادة لاكتشاف أعماق الفن الإنساني متأثرا بظروفه الآنية، لذلك خضت مجال التجربةالمسرحية عندما أسست (مسرح كيف) منذ 2006م و قمت بعدة تجارب وجدَت ما وجدَت من هجوم وتصدي واستهانة في بدايتها لكن الظروف الجيدة خدمت تلك التجارب فيما كان للظروف السيئة دور الحفز الدافعية لمشروعي المسرحي.
ومسرح كيف ينطلق من البحث والتقصي بأسلوب علمي يهدف على صياغة التجربة بشكل (مصنعي) ليحقق من وراء التجربة اكتشافات جديدة في أدوات الصناعة المسرحية من نص وإخراج وتمثيل لذلك يعتمد (مسرح كيف) على أسلوب الصنعة المسرحية الذي يقترب كثيرا من مهمة (الدراماتورجيا) ولكنها هنا بشكل جديد.
لقد ظهر في عام 1769ميلادية مصطلح جديد أو وظيفة جديدة ضمن وظائف فريق العمل المسرحي وهي (الدراماتورج- dramaturh)وتعرِّف الموسوعة البريطانية الدراما تورجيا بأنها تقنية التأليف الدرامي أو التقديم المسرحي. ويقول الدكتور يونس الوليدي في إحدى مقالاته أن الدراماتورجيا تضع أدوات النص ووسائل الخشبة في خدمة المعاني المتعددة والمتواصلة للنص الدرامي، ويرافق ذلك بحسب تعبير الوليدي ضرورة اختيار تأويل معين أو توجيه العرض وفق هذا التأويل.
ترى، كيف سيكون شعور الكاتبة الشهيرة «ج. ك. رولينغ» مؤلفة سلسلة «هاري پوتر» الشهيرة حينما تعلم أن بعض إصدارات سلسلتها قد قفز إلى «الطبعة السادسة والسابعة» في اللغة العربية، في حين أنه لا يزال في طبعته الأولى باللغة الإنكليزية!
قبل أن نستقصي الشعور المحتمل للمؤلفة، علينا أن نفهم ماذا تعني كلمة «طبعة»، وكيف أن هذا المصطلح الدقيق والنافع تحول إلى أداة تضليل على القارئ في عالمنا العربي.
ما حدث هو أن هناك خلطا – قد يكون متعمدا بغرض التدليس أو بريئا بسبب الجهل- بين مفهوم الطبعة Edition وإعادة الطباعة Reprint. ومن الظاهر أن الغالبية الساحقة من الناشرين العرب لا يستطيعون التفرقة بين المفهومين، أو لا يريدون، أو كليهما معا!
تمهيد
ليست الكتابة عن “الطيب صالح” بالشيء الهين أو اليسير، هذي قلعة عالية الأسوار، منيعة الجدارن. لا يبرز لها المغامر برماح قصار أو أسياف عقار، إلا أن يكون رأس الغنم عنده، تقريض الخصم، قَعيرُ الرأي أحسنه – كما هو حالنا هنا- أما الكسب فهذا أبعد من أن تهذي به أقلامنا.
من “كرمكول” بل من دبة “الفقراء” برزت عبقرية عربية – أفريقية فذة، بزت الأقران، وبلغت في عتبات الرّواية والأقصوصة وفن السير حد الجمال والإتقان، فحازت بذلك الامتنان والعرفان من كل منصف وعارف بأصول الحرفة، وأغراض المهنة.
“الطيب صالح”: (1928- 2009) ذلك السّوداني النّموذجي في هيئته وتواضعه ولباسه وثقافته الواسعة، والإستثنائي في عبقريته وإبداعه وشخصه. إنّ الحديثَ عن “الطّيب صالح” .. ليس حديثًا عن شخص بعينه .. ولكنه ذلك التّوصيف لنتاج تمازج مذاهب الثّقافة الإنسانيّة بشرقها وغربها، شمالها وجنوبها. وإذا كان من غير الممكن أن نبدأ مقالة ما، عن “الطيب” من غير هذا التّمهيد المتواضع عنه .. كذلك يكون الأمر عند الحديث عن الكاتب النّمساوي – الألماني الكبير “روبرت موزيل”: (1880- 1942)، الذي ولد بمدينة “كلاكنفورت” النّمساويّة.
إذا أردنا أن نصف المسرح التجريبي فلن نصل إلى مصطلح جامع مانع لتعريفه، لكننا من خلال ماتفضل به المسرحيون من ثرثرة طوال العقود الماضية قد نحدد ـ كلٌّ من وجهة نظره ـ مفهومًا ينطلق منه إلى ساحة الجدل حول المسرح التجريبي، وأعتقد أن تفكيك هذا المصطلح خطأ فادح يرتكبه من يريد الوصول إلى تعريفه؛ لأنه بكل بساطة سبق توصيف الحالة ولم يأت بعدها.
لقد ذهب الكثير من المسرحيين الأساتذة والزملاء والمجتهدين إلى تكوين صورٍ ذهنيةٍ متناقضةٍ ومتقاطعةٍ حول مفهوم المسرح التجريبي مما أربك العمل تحت مظلة هذا النوع، وتفاقمت الإشكالية بتشويهٍ خَلقي نفَّر المتلقي وصنع فجوة معه وكاد يُفقِدُ مسرحَنا ركنًا هامًّا في العملية المسرحية وهو الجمهور.
بذرة وُجدت في تربة، رَبَت مريضة من أخلاط مياه ورفعت عودًا رقيقًا هينًا تعلن به حياة ضعيفة، لكن الجذور الغضة أحست بماء لؤلؤي غني طيب ينساب بين الأخلاط ويدنو ثم يغمرها ويصل قلبها فاستعذبته وانتفضت تعوض ما فاتها. انتشى العود واخضر وأضحى شجيرة تعجب الناظرين. لكن الحال تبدلت بغتة بعدما ألفتها الشجيرة. هبت ريح جافة من كل صوب واغبرّ الجو. تشققت الأرض وتجافت عن الجذع والجذور وانقطع الماء العذب وبقيت الأخلاط. تعاظمت المعاناة وتنكرت الحياة. خفتت نبضات الشجيرة في جنباتها متعللة بمياه منفرة وهواء رديء، وتكلفت بجذعها وأفرعها وقلبها الصبر والصمود في ريح كاتمة قاسية تقتلع وتخرب وتجلب الغثاء. طال عهد السوء وذبلت الشجيرة وذهب لونها وظلها ووقف نموها فاستدقت أغصانها وسال دمعها علقمًا ملتهبًا من بين الشقوق والأجراح واستسلمت للموت. قاربت آخرُ ورقة السقوط وأوشك طائفُ الأجواء يقتل الشجرة ويمزق لحاءها ويغري بها الفؤوس.
يرفعني نظري متلهفًا؛ وتشدني رقبتي وخواطري فأسكن أترقبك أيها البدر العالي فأستبشر لبزوغ حاجبك ثم جفنك؛ وابتسم لظهور خدك، أنتشي وتبيَضّ أيامي عندما يكتمل وجهك في السماء، تذُر من لؤلؤ حضورك على عباءة محيطي السوداء فإذا ليلي بك يجاري نهاري والأشياء لا تنتظر الشمس.
وبعد ذلك تحتجب يا صاحب التاج وأديم العاج، يمضي موكب إطلالك عن الطبيعة والوتر والغمام والسحر، تغيب كي أعود لحركتي ولليل حياتي البهيم، تحتجب أيها البدر مشفقًا على كوكب أرضي بائس أن يذهل عن واجباته، تمضي مثلما بزغت؛ ببعض وجهك ثم بخدك ثم يختفي جفنك ثم هلال حاجبك؛ رويدًا رويدًا لئلا يزيغ كوكبي جزعًا ويضيع أسى إن ذهبت بغتة.
الصفحة 9 من 45