منذ سنة كتبت كتابًا بعنوان (الجدار الأخير). كنت أحاول كسر عقدة الخوف من التفكير في المجتمعات العربية، فكانت حرية التعبير تدفعني للكتابة والتعبير عن أفكاري وإيصالها لكل الناس لعلني أغير فكرة أو أضيف فكرة. وكانت تجربة ممتعة ورائعة، بحثت، قرأت الكثير من الكتب. ولألخص أفكارًا مع أفكار الآخرين أكتشف أنهم كانوا أكثر جرأة مني؛ فكتاب ألف ليلة وليلة كان يستهويني، كنت أحب شهرزاد وأعشقها وأعتبرها بطلتي، ثم قلت ألم تنتفخ أيادي الخطاطين من كتابته؟ وكيف كان لهذا الكاتب أن يكتب كل هذه القصص الغريبة والمختلفة؟ كنت أفتخر أنه مكتوب باللغة العربية الأصلية، فالترجمات الغربية للأسف مختلفة عن النص الأصلي، ويمكنك شراء أي نسخة بالفرنسية وستكتشف أنها مختلفة عن الأصل. لم يتمكن المترجمون من ترجمة الأبيات الشعرية التي لا يستطيع الغربي الإحساس بها. فأقدم ترجمة إنجليزية ترجع إلى سنة 1706، يعني لم يستمتع الغرب بقصصها إلا في القرن الثامن عشر. والعجيب أن الأدب الإنجليزي لم يكن ينقصه إلا الخيال الذي حاول وليام شكسبير تحريكه لكنه لم يستطع أن يصل إلى مستوى كتابة ألف ليلة وليلة، ولو تمكن شكسبير من قراءة هذا الكتاب الذي سمي بالليالي العربية لتغير المسرح الذي كان يقدمه شكسبير.
غمغمات مُغتمة، وجعجعة كبيرة تصلصل في آخر عامين أو ثلاثة، وها هي تزداد اليوم مع تعاظم موجة الأعمال الأدبية التي لا تصل إلى الحد الأدنى من الجودة التي يتوقعها الوسط الثقافي. ورغم صعوبة تعريف الحد الأدنى للجودة، وصعوبة تحديد تخوم الوسط الثقافي، إلا أن المراقب سيشعر باستياء، ليس في هذا الوسط وحسب، بل حتى في أوساط أخرى لا تقرأ الأدب بالضرورة، لكن من يهمها أمرهم (أبناؤهم مثلا أو طلابهم) يفعلون. هذا ليس مقام التبرّم، وليس مقام العويل، هذا مقام التشخيص.
س: ما هي الأعراض؟
ج: أعمال أدبية مكتوبة بالعامية الفجّة، أو بلغة فصحى متواضعة وأحيانا سوقية ومليئة بالأخطاء اللغوية. القضايا ضحلة وعاطفية في معظمها، والمعالجة الأدبية ركيكة. باختصار، شروط العمل الأدبي معدومة أو تكاد. هذه ليست ظاهرة جديدة (هل نسيتم روايات عبير مثلا؟)، ولا يجب أن تثير قلق أحد إلا إذا علمنا أن هذه الأعمال تنال شعبية هائلة، شعبيةً لم تنلها الأعمال الرصينة قط!
الجميع يعرف قصة أليس التي لحقت الأرنب إلى بلد العجائب (Alice's Adventures in Wonderland) أتذكر عندما كنت طفلاً أتعجب من ذلك الأرنب الذي ينظر إلى ساعته، وسقوط أليس في تلك الحفرة لتدخل عالم لم يدهشها، فالأطفال لا يندهشون من العوالم الجديدة، رغم أن قصة أليس لا تنتهي فهي مستمرة، سألت كيف استطاع هذا الكاتب (لويس كارول) أن يفكر في قصة خيالية وهو مدرس رياضيات؟ وكيف اختار طفلة ولم يختر طفلاً شقيًّا مثلي؟ كان يدخن سجائره الأولى وهو يرتعد من عقاب الوالد، ثم سألت هل يعقل أن رجل انجليزي يستطيع أن يكتب قصة غريبة مثل قصة أليس في بلد العجائب بدون فكرة أم؟ ثم تذكرت الحقيقة أن كل القصص الغربية كتبت بروح شهرزاد التي كانت بطلة ألف ليلة وليلة فالجميع يعرفون الجني الذي كان محبوسًا في مصباح، والذي أصبح خادم علاء الدين، ولا أحد ينسى تلك المغارة التي دخلها علي بابا فكل هؤلاء الأبطال هم عائلة أليس الحقيقيين، أما الأرنب فهو ذلك الخيال الذي يخرجنا من عالم إلى عالم آخر، فنحن لم نستفد من كتاب ألف خرافة وخرافة بينما الغرب تعلم أن يخرج منها الكثير من القصص الغريبة التي تحولت إلى أفلام وقصص تجعلنا نشعر بتلك الدهشة، فالدهشة هي القوة الوحيدة التي تجعلنا نتنفس كالأطفال، لم تكن شهرزاد إلا تلك الحسناء التي تروي القصص فكل قصة هي أم القصة التالية لتسكت قبل الفجر وهي أمام ملك تعلم بأنه سيقتلها مع انتهاء القصة فكانت كل القصص كالدمية الروسية (ماتريوشكا) فكل قصة طويلة تليها قصص قصيرة، كيف تستطيع امرأة الإبداع بهذه الطريقة وهي تنتظر عقوبة الإعدام مع انتهاء كل قصة؟ وهل كان كاتب القصة الحقيقي يعاني نفس ألم شهرزاد وهو مصير الموت؟ ولماذا جعل من روح بطلته كل شيء ولم يظهر هو؟ ثم لماذا يظهر مرة بصورة سندباد ثم بصورة الشاطر حسن؟ وكلاهما يمارس التجارة، ثم يظهر بصورة علاء الدين وعلي باب اللذان
اختار الله لهم حمل الأمانة قبل أن يقبلوا هم بحملها، إنما قبل أن يعرِضها الرَبّ عليهم قررَ لهم أنهم سَيَحمِلونها. قدر البشر. فعرض الأمانة على البشر كان لغرض إعلامِهم بحقِهم في الاختيار؛ هناك، في الدار الأخرة وفي الحياة الدُنيا. حرَّم الله على آدم وحواء الأكل من شجرةِ الْخُلْد وَمُلْكٌ لاَّ يَبْلَى، فخالفاه. بيد أنه قرَر لهم أنهم سيأكلوا منها باختيارهم قبل أن يُحَّرِمها عليهم. درس المنع والمعصية هنا لتعلم فضيلة التوبة، فلم يسجُد إِبْليس للنبي آدم أبدًا، معروفٌ للخالق أنه لن يَسجُد، فكان ذلك للبشر درس أن بابَ العصيانُ مفتوح.
النهايةِ، أراد الله للبشر الحياة فجعلهم يختاروها، إرادته اختاروا ما تشاؤوُّن، فاختار كُلَّ بني آدم منهم ما ارتأى. أمرهم أن اهبطوا الأرضَ، فَلِكلِّ بشريٍ شِيفرته: كود، مفتاحٌ، رقمٌ سري؛ لفتةٍ، بسمةٍ، همسةٍ، لمسةٍ؛ شَهوةُ مالٍ أو سُلطةٍ أو شُهرةٍ؛ شابٌ أو صبية، فبكُلَّها أو بواحدةٍ على الأرجح يَعرف كُل بني آدم هواه فيُصلِحه أو فَعليه العوض.
دعني أدخل في صلب (العنوان) لأُسقطك في فخ الموضوع، إن المسرح كائن شاب لا يقبل (العواجيز) لأنهم ضعفاء ولا يواكبون الذهنية العصرية، بل يتسببون في رجعية المسرح كفن وثقافة وفعل.
هذه الحقيقة يرفضها العديد من المسرحيين (الاستوكات) لأنهم يَعتبرون (مدّة الخدمة المسرحية) مقياسًا كافيًا لجودة ما يقدموه، والحقيقة أن الجودة في المسرح تقف على مدى (شبابيته) بغض النظر عن تراكمات تجربته والجميل في هذا الأمر أن كبار المسرحيين الذين يقدمون المسرح كشباب يزيدونه تألقًا ويضفون عليه لمعة الرصانة والجزالة.
في جانب آخر نجد أن فشل بعض الشباب مسرحيًا يكون بسبب كون المسرح الذي يقدموه (عجوز) يتكئ على زهايمر مبكِّر سببه عجز النَّفس عن فهم حقيقة المسرح ككائن نعيشه لنبقى محلقين بروح شابة مهما كانت أعمارنا.
إن مسمى "مسرح الشباب" يدفعنا إلى مساحة كبيرة من المفاهيم التي ترادفه ومن أبرزها (الحيوية)، تلك الخاصية الذهبية للمسرح بالعموم لأنه نشاط تفاعلي الأبعاد في سلسلة من الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر والنمو والتحول وما يصاحب كل هذا من فعل تتجلى من خلاله الحيوية المستمرة.
الموت كلما تقدم الإنسان في العمر أصبح أليفًا، مجرد طقس يتكرر بإسراف، ينسحب على إثره جارٌ لنا في الكون إلى لا مكان تاركًا خلفه في القلوب بعض الذكريات وبعض الحنين، يرتفع إحساس اللامبالاة بالموت في قلوبنا، خاصة عندما يفقد أحدنا ذلك الشخص الذي، لسبب ما، يصبح كل فقد بعد فقده هينًا، كان ذلك الشخص بالنسبة لي هو أبي، وأصبحت بعد موته لا أهتم كثيرًا بمن مات ولا من عاش.
لكن في ذاكرة كل منّا حتمًا ذلك الشخص الذي لا يعرفه إلا في عالم الخيال، مع هذا فقد ترك في قلبه ندوبًا و مسرات، وانتابه حلمٌ صغير ليس له أي منطق أن يراه ذات يوم ويحاكيه، "جابرييل جارسيا ماركيز"، كان بالنسبة لي ذلك الشخص الواقف علي قارعة هذا الحلم الذي احترق منذ عدة أيام فقط، لينضم إلى كومة من رماد أحلام كثيرة قد احترقت في الطريق إلي كتابة هذا الكلام.
نعم سقط "ماركيز" في الفجوة التي لابد له منها، بعد عراك شديد مع مرض السرطان بدأ منذ عام "1999"، وظلت الملائكة تنتظر وفادته، حتى قبل حزمة من الساعات.
لقد قام القبر بهضم جسده تمامًا، لكن ضوء روحه الغامض الذي انسحب إلى اللامكان، أصبحت خيوطه الآن، وأكثر من أي وقت مضى، معلقة في المطلق بوضوح شديد.
برز الحديث عن الهامش في الدراسات الاجتماعية، ومنها إلى الأدب، في خضم محاولة الانتقال إلى ما بعد الحداثة وبالضبط في الدراسات ما بعد الكولونيالية التي اهتمت أساسًا بتسليط الضوء على العلاقة غرب/شرق، مستعمِر/مستعمَر(سابق)، ما بعد الحداثة التي قاربت موضوع علاقات القوة داخل المجتمع بشكل مجمل، وهو ما قورب في تحديد ملامح العالم، الشعوب بالتحديد، بعد خروج الاستعمار، دراسات لها جذور نظرية ترجع إلى القرن الثامن عشر لكن تبلورها النظري بدأ مع فانون، وتجلى مع إدوارد سعيد، ثم غياتري سبيفاك، وهومي بابا بأشكال مختلفة بين كل واحد من هؤلاء، وفي هذا المحضن ظهرت دراسات الهامش، هذا الصنف من الدراسات الذي برز في ثمانينيات القرن الماضي من خلال عدد من الباحثينالذين اهتموا بدراسة أوضاع المهمشين، ويعتبر المفكّر الهندي غوحا، واحدًا من روّاد دراسات الهامش، فهو من قام بوضع أسس هذا الحقل المعرفي في مقال له منشور بعنوان (دراسات الهامش)، وكتابه (الجوانب المبدئية لتمرد الفلاحين في الهند تحت الحكم الاستعماري)، ثم ظهرت بعد ذلك أسماءء كان لها الوقع الكبير في تطوير هذا النوع من الدراسات كهومي باب وسبيفاك خاصة، في مقالها (هل يمكن للهامش أن يتكلم؟)، ودون الغوص كثيرًا في الجانب النظري من هذه الدراسات التي حاولت استدعاء الهامشي إلى الفضاء العمومي وإعادة الاعتبار إليه بإدراجه ضمن مساحات التفكير والنقاش، وتفكيك الخطابات المركزية الغربية ومن ثَمَّ إعادة إنتاجِ معرفةٍ لصيقةٍ بما يتكبَّده البشر من ضروب المعاناة والتهميش نتيجة الممارسات والأخلاقيات التي أفرزتها الفترة الاستعمارية، فإن هذه الدراسات تهتم بكل ما هو في هامش المجتمع كالمرأة والفقير والمثلي والطابوهات...
الصفحة 8 من 45