يقول كافكا وهو كاتب يهودي:
"الكتابة تكليف لم يكلفني به أحد"، وكلامه سليم إلى حد ما، ولكن لو سألت نفسك لماذا نكتب؟ تستطيع وتستطيعـ/ ين القول: إننا نكتب لنسعد أنفسنا أولاً، ومن حولنا ثانياً، نكتب لإيصال رسالة للمجتمع والعالم كله، نكتب لنبقى على قيد الحياة، فتراكمات القراءة في نفوسنا تضغط على أعصابنا فنفرغها بالكتابة، لذا يعد القلم من أنجع سبل العلاج للمتضايقين، يفرغ شحناته على صفحات الورق ، وليكن صادقاً فذلك أحرى بشفائه مما هو فيه..
منذ اختراع الورق زادت الحاجة إلى الكتابة أكثر، وأصبح القلم شرهاً بيد الكاتب لدرجة أن اليوم الذي لا تكتب فيه ولو تغريدة في تويتر تشعر بالاختناق، وعلى الجانب الآخر هناك قارئ نهم يشغل يومه بقراءة شيء مفيد، وهكذا..
فأنا أكتب لأتحرر من القيود التي تكبلني كل يوم، فإيقاع الحياة السريعة يحتاج إلى وقفات، إبان انهماك كل منا في عمله، ومتطلباته ومتطلبات بيته وأسرته..
في معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام، حضرت متأخرا قبل إغلاقه بيومين تقريبا، ولأنني لا أستطيع شراء الكتب بسبب تكلفتها العالية، وثمنها الباهض، ولأنني لم أستطع أن أوثق العلاقة بين زوجتي والكتاب، فأذكر آخر مرة انتقلت فيها إلى بيت جديد كم تذمرت زوجتي بسبب مكتبتي الصغيرة، حتى اضطرتني للتخلص من بعض الكتب فيها بأساليب شتى فوزعت بعضها على الحلاقين، وبعضها الآخر وضعته في صناديق إعادة تدوير الورق، وأهديت بعضها لأصدقائي على مضض منهم؛ إذ لم يعد الكتاب هدية مناسبة...
يظن كثير من الناس أن الكتابة حكر على أهل اللغة، والشعر من صناعتهم هم فقط، وأعني بأهل اللغة خريجي اللغة العربية على سبيل المثال، ومع أن التخصص مطلب مهم، غير أن الكثيرين تميزوا وبرعوا في مناشط لا علاقة لها بتخصصاتهم العلمية، وبعضهم برع بها وأجاد وليس لديه تخصص علمي أصلا، فأعطيكم مثالا: (المفكر والأديب والناقد عباس محمود العقاد)... لو قرأت في سيرة العقاد تجده لم ينتظم في مدرسة فوق الابتدائية، وإنما عمل على تثقيف نفسه بنفسه، فقرأ وكتب، وتعلم اللغة الإنجليزية أيضا، وكتب فأبدع في قصائد عدة، وفي قصة (سارة) كتب بطريقة لم يستطع مجاراته الكثيرون من أهل اللغة ذاتها...
والشاعر نزار قباني هو حقوقي في الأصل، وعمل في السلك الدبلوماسي حقبة من الزمن، ومع ذلك جاء بالعجب العجاب، وكذا الشاعر عمر أبو ريشة، لم يكمل دراسته الجامعية في اللغة الإنجليزية وقضى حياته سفيرا متنقلا لبلاده...
يتبلور المجتمع المدني كمكون لا محيد عنه من مكونات الحكامة الجيدة؛ عبر مساهمته في العديد من الأوراش والتحديات الكبرى، والقادرة على جعله رهانا مستقبليا "مصيريا"، من منظور التعامل معه كسلطة "خامسة" ناشئة. في هذا الصدد تتبلور إحدى أهم مساهماته، والمتمثلة في تدعيم أسس الفعل الديمقراطي "الرصين" وتكريس أبعاد ممارساته الفضلى، سواء أفي الدول العريقة ديمقراطيا أم تلك التي مازالت تعرف مخاضات الانتقال الديمقراطي. إنه باعتبار المجتمع المدني مملكة الحرية -وفق الفهم الجيلنري- فهو سيظل بلا شك الوعاء الأساسي لاحتضان البنيات العميقة للديمقراطية كقيمة جوهرية، وما يرتبط بها من معايير وأسس، وعلى رأسها قيمة المواطنة، التي يعمل المجتمع المدني جاهدا على الإبقاء على مكانتها السامقة في صرح القيم المدنية الرفيعة.
يبادرني نفس السؤال في كلّ مرةٍ أستمع لحديثٍ عابرٍ لِـ "أجنبيّ" حديثُ عهدٍ بالإسلام؛ يتحدث عن القرآنِ بشغفِ الحبّ، يُجبرك بجمالِ وصفه أن تعيش معه اللذة في تلك الآية التي حفظناها عن ظهرِ قلب وكأننا نسمعها لأول مرة! كيف قاده قلبه لتلك الروحانية؟ وأي السّبل أوصلته إلى هنا؟
فأجدُ لُبّ الإجابة في أنه أعطى كامل الحرية لعقله في أن يتفكر فيما حوله دون قيود؛ فحمِلته إلى الحقيقة؛ رغم أنها أضلّته قليلًا عند مفترق الطرق!
فكان هذا النتاج؛
مقال: ضللتُ الطريق
كلماتي هذه -كما هو مُعنْونٌ لها تخطو أولى خطواتها إلى الصلح بين متقاطعين، أو بوصف ٍأدق: بين قاطع وبريء من القطيعة، بين مقدّمِ معرفة -أيا كان- وبين الكِتاب: مخصّصًا لمجال ما أو منوعا. ولعل الكثير يلمس هذه القطيعة أو يلمحها في حديث معاد، أو ذكر معلومات قديمة، أو إعادة موضوعات مما تداركه اللاحقون من المحققين أو المدققين بالتصحيح، أو مما تسارع العلم بالإتيان فيه بجديد... بل ربما لا يبقى الأمر عند ثبات هذا النوع من المتعالمين في أول منعطف للعلم، بل يتعداه إلى ظهور الهجر البيّن للقراءة -منذ مغادرة آخر مقر تعليمي- في كلام هذا المتحدث، أو -كما سميناه- ناقل المعرفة. وبما أن الفقرة السابقة قد حوت ملامح القطيعة بين (ناقل المعرفة) والقراءة؛ فالفقرة التالية ستفتح عدة سبل؛ تمكّن مَن يسلكها –بإذن الله- مِن بدْء القراءة، ثم اعتيادها، ثم جعْل ممارستها نظاما حياتيا لا غنى عنه. أول هذه السبل: معرفة الإنسان قدر نفسه، وأنما هو (بأصغريه: عقله ولسانه)، وهذان الأصغران لا يمثّلان الإنسان – كما يريد – إلا إذا غذاهما بزاد المعرفة والتعلم والاطلاع الدائم، فإذا اقتنعت بذلك فيمكن مواصلة القراءة؛ لتعرف السبيل الثاني، وإن لم تقنعك تلك الفكرة السابقة، فأدعوك إلى التوقف عن مواصلة القراءة، فلربما حوى هذا المقال أفكارا لن تستثير اهتمامك، ووقتك أثمن. ثاني السبل: تعرّف الإنسانِ طبيعتَه، فإن كان يستكثر مما يحب؛ فليختر كتبا حول اهتماماته، والأشياء التي يحبها حتى لو لم تقدم له جديدا، فالمهم هنا هو إيجاد علاقة صداقة بينه وبين الكتب: أغلفتها، ورائحة أوراقها، وإخراجها، وعناوينها، بل حتى طريقة حملها وتصفُّحها.
تمرُّ الشهور والثواني، ومعها الفرصُ والأماني، في كل لحظةٍ في الحياة هناك ملايين الحوافز التي تجعل من الشابِّ شخصاً فاعلاً مؤثراً في مجتمعه، فقبل أن تأتيهِ الفرصة ؛ يترقَّبُها ترقُّب القناص للفريسة، ويبادرُ لها ليطلبها، ويهيئ الظروف لتمشي معه بمرونته، ثم هو يصنعُ الحدث ليكونَ محطَّ الأنظار من الآخرين دون أن يناديهم.
فهذا أحمد طالبٌ مُستجد بعد أن أنهى محاضراته الجامعية؛ نوى أن يصليَّ الظهر، فبحث عن مصلى فلم يجد! فلم يكن ذلك مبرراً لتأخير الصلاة.
الصفحة 9 من 78