كنت كتبت مقالاً نشر بتاريخ (15/3/2007) وعنوانه (لماذا لا تلعن الملائكةُ الرجالَ !)* ولم أقصد بهذه الصيغةِ الاستفهامَ الحقيقيَّ ، بل جئت به على غير بابه ، فهو استفهامٌ إنكاريٌّ تعجبيٌّ ؛ لذا لم يكن من المفروض أن أضع آخر هذه الصيغة علامة الاستفهام ، وحبذا لو تفضل الإخوة الأفاضل. في الدار فأزالوها ، ووضعوا بدلها علامات تعجب.
كما أني لم أُرِدْ مجرد قضية اللعن ، بل كنت أرمي إلى ما هو أبعد ، وهو أني أُنَزِّلُ على الرجال النصوص التي جاءت موجهةً إلى النساء ، إلا ما كان من النصوص لخصوصية النساء الواضحة.
وقد كان لبعض الإخوة والأخوات تعليقات مختلفة . وإني أشكر لجميع الإخوة والأخوات الذين علقوا على هذا المقال ، وأخص الأخ الفاضل: الأستاذ بشير بساطة الذي توقف قليلاً عند هذا المقال ، وطلب منى أن أزيد الموضوع وضوحاً ، وأيَّدَه على هذا الأخ عبدالله عبدالكريم . وأعتقد أنَّ خير تمحيص لأية فكرة تُطرح هو نقدها : تأييداً ، أو مخالفةً ، أو الإشارة إلى ما اكتنفها من غموض .
أعتذر للأستاذ الفاضل ولغيره عن قصور المقال السابق في إيضاح هذه الفكرة ، وأتقدم إليه بأسفي الشديد عن تأخري في الاستجابة لطلبه ، وسأحاول أن أوضح هذه الفكرة ، وآمل أن أنجح في هذا .
وخلاصة هذه الفكرة : أني أعتقد أنَّ الخطابات الشرعية تعم الرجل والأنثى ، سواء أجاءت مخاطبة الرجل ، أم مخاطبة الأنثى ، إلاَّ ما هو من خصوصية المرأة ، كالأحاديث التي تتحدث عن العدة ونحوها . ولبيان ذلك أقول :
يقول ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ : ((لا يَبِعِ الرجلُ على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه ، إلا أن يأذن له)) . [أخرجه مسلم] . النهي في هذا الحديث موجه بصيغته إلى الرجلِ ، فهل يجوز للمرأة أن تبيع على بيع الرجل والمرأة ؟ الجواب : لا يجوز. النتيجة أن الخطاب موجه للاثنين.
وفي الحديث أنَّ النبي ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ نهى الرجلَ أن يَتَلَمَّسَ عَثَرَاتِِ زوجَتِهِ . [أخرجه مسلم] . النهي في هذا الحديث موجه بصيغته إلى الرجل ، فهل يجوز للمرأة أن تَتَلَمَّسَ عَثَرَاتِِ زوجِها ؟ الجواب: لا يجوز. النتيجة أن الخطاب موجه للاثنين.
يقول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ((لا يَفرُكْ [يبغض] مؤمنٌ مؤمنةً ، إن كَرِه منها خلقاً رضِيَ منها آخرَ)) . [أخرجه مسلم] ؛ النهي في هذا الحديث موجه بصيغته إلى المؤمن ، فهل يجوز للمؤمنة أن تبغض زوجها لخلق سيء فيه ؟ الجواب : لا يجوز. النتيجة أن الخطاب موجه للاثنين.
ويقول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ : ((إنّ مِنْ أشرِّ الناسِ عندَ الله منزلةً يومَ القيامةِ ، الرجلَ يُفضِي إلى امرأتِهِ ، وتُفضِي إليه ، ثُمّ ينشرُ سرَّها)) . [أخرجه مسلم] . الوعيد في هذا الحديث موجه بصيغته إلى الرجل ، فهل يجوز للمرأة أن تنشرَ سرَّ زوجها ؟ الجواب : لا يجوز. النتيجة أن الخطاب موجه للاثنين.
ويقول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ : ((أيما رجلٍ قال لأخيه : يا كافر ، فقد باء بها أحدهما)) . [أخرجه البخاري] . الوعيد في هذا الحديث موجه بصيغته إلى الرجل أن يقول لرجلٍ آخر : يا كافر .
فهل يختلف الحكم فيما لو قال رجل لامرأة : يا كافرة ؟ وهل يختلف الحكم فيما لو قالت امرأة لرجلٍ : يا كافر ؟ الجواب : لا يختلف الحكم. النتيجة أن الخطاب موجه للاثنين.
ويقول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ : ((أيما رجلٍ أعتق امرأً مسلماً ، استنقذ الله بكل عضوٍ منه عضواً منه من النار)) . [أخرجه البخاري] . هذا الحديث يبين بصيغته ثواب الرجل إذا أعتق امرأ (رجلاً).
فهل إذا أعتق الرجلٌ امرأةً ، لا يستنقذ الله بكل عضوٍ منها عضواً منه من النار ؟
وهل إذا أعتقت المرأةُ رجلاً ، لا يستنقذ الله بكل عضوٍ منه عضواً منها من النار ؟
الجواب : ثواب العتق سواء ، سواء أكان الذي أعتق رجلٌ ، أم امرأة. النتيجة أن الخطاب موجه للاثنين.
ويقول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ : ((أيما رجلٍ مات أو أفلس ، فصاحب المتاع أحق بمتاعه ، إذا وجده بعينه)) . [أخرجه الشافعي] . هذا الحديث يتحدث بصيغته عن حكم الرجل إذا اشترى شيئا ، ثم مات قبل أن يدفع الثمن ، فهل لو اشترت المرأةُ متاعاً ولم تدفع ثمنه ، ثم ماتت ، أو أفلَسَتْ يختلف حكمها عن الرجل ؟ الجواب : المرأة كالرجل في هذا. النتيجة أن الخطاب موجه للاثنين.
فهذه النصوص وكثير مثلها تخاطب الرجل ، وهي ـ في الوقت نفسه ـ خطاب للمرأة .
وكما كانت هذه النصوصُ الواردةُ باسم (الرجل) موجهةً إلى المرأة ـ أيضاً ـ فكذلك النصوصُ الواردةُ باسم (المرأة) موجهةٌ إلى الرجل ـ أيضاً ـ اللهم إلاَّ إذا كانت تلك النصوصُ تتحدث عن أمرٍ خاصٍّ بالمرأة ، مثل : الأحاديث التي تتحدث العدة ، والإحداد ، والحيض .
بناء عليه :
فحديثُ أبي هريرة ، عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت ، فبات غضبانَ عليها ، لعنتها الملائكةُ حتى تُصبِحَ)) . وفي رواية : ((إذا باتت المرأةُ مهاجرةً فراشَ زوجِها لعنتْها الملائكةُ حتى تَرجِعَ)) . [متفق عليه] خطابٌ للمرأة بصيغته ، وهو خطابٌ للرجل ـ أيضاً ـ إذا دعته زوجته إلى الفراش ، فأبى دون عذر شرعيٍّ ، أو نفسيٍّ .
إذْ ، لماذا تلعنُ الملائكة المرأة التي أرادها زوجُها إلى الفراش فأبت ، ولا تلعن الملائكة الرجل الذي أرادته زوجتُهُ إلى الفراش فأبى ؟ مع أنَّ المرأة عندها ما عند الرجل من الرغبة في الفراش ؟؟
إذْ ، لماذا على الزوجة أن تستجيب للزوج إذا دعاها لحاجة الفراش ، ولا يجب على الزوج أن يستجيب لزوجتِهِ إذا دعتْهُ لحاجة الفراش ، مع أنَّ المرأة عندها ما عند الرجل من الرغبة في الفراش ؟؟؟
وقولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ : ((أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها طلاقَها من غير بأسٍ ، فحرامٌ عليها رائحةُ الجنَّة)) . [الحديث حسن ، أو صحيح] خطابُ تحذيرٍ للمرأة بصيغته ، وهو خطابُ تحذيرٍ للرجل ـ أيضاً ـ إذا طلَّق زوجتَهُ دون سبب.
إذْ ، لماذا حرامٌ على المرأة أن تطلبَ ـ مجرد طلبٍ ـ الطلاقَ من زوجِها ، وحلالٌ على الرجل أن يُطَلِّقَ زوجتَه دون سببٍ ، وأكثر ما ورد من تهديدٍ للرجل الذي يطلق حديث مزعوم ، هو : ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق)) . وهو حديث ليس بصحيح!! ، مع أنَّ الأذى الذي يلحق المرأةَ بالطلاق أشد من الأذى الذي يلحق الرجلَ ؟؟؟ فالأذى الذي يلحق الرجلَ ماديٌّ . والمعنويُ قليلٌ ، ومن السهل عليه أن يعوض هذه الزوجةَ بزوجةٍ أخرى ، بينما الأذى الذي يلحق المرأةَ المطلقةَ : قدحٌ في السمعة ، وتضييقٌ في الحركة ، وإسلامٌ إلى المجهول . واحتمالات التعويض لديها أقلُّ من الرجل بكثير.
لكن قد يسألُ سائلٌ : إذا كان الأمر كما تزعمُ ، فلماذا يأتي الخطاب موجهاً إلى أحد الجنسين ؟
الجواب : أننا نعلم أنَّ النبي ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يجيب كل سائلٍ بما يتناسب مع حاله ، فقد يكون المقام الذي قيل فيه هذا الحديث ، أو ذاك ـ هو الذي اقتضى ذكر المرأة ، أو الرجل .
فمثلاً : ربما يكون هناك رجل شكا زوجته لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنها لا تستجيب له إذا دعاها إلى الفراش ، فقال ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت ، فبات غضبانَ عليها ، لعنتها الملائكةُ حتى تُصبِحَ)) . أو أنه ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ جرى على الغالب ، وهو أنه غالباً ما تكون المبادرة بالطلب ـ لأسباب متعددة ـ من الرجل ، فكانت المناسب أن تكون الدعوة للمرأة أن تستجيب . وليس المراد به خصوص المرأة ، لكن الذي اقتضى ذكر المرأة هو المقام .
وربما جاءته ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ زوجةٌ تطلب فراقَ زوجِها ، دون أيِّ مسوِّغٍ لهذا الطلب ، فقال لها ـ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ : ((أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها طلاقَها من غير بأسٍ...)) . وليس المراد به خصوص المرأة ، لكن الذي اقتضى ذكر المرأة هو المقام .
وربما شكا زوج زوجته بنشوزها عليه ، وعدم طاعتها له ـ لا سيما في مجتمع الأنصار في المدينة الذي كان تغلب فيه نساؤُه رجالَه ، كما يقول عمر عن الأنصار ـ فلمَّا كانت عدم الطاعة من المرأة ناسب أن يتوجه الخطاب للمرأة.
مع ملاحظة أنه لا يجب على المرأة أن تستجيب إذا كان لديها عذر حسي أو معنوي، كما لا يجب على الرجل ذلك؛ لأن الإنسان ـ رجلا أو امرأة ـ ليس آلة يشغلها صاحبها متى يريد.
وبعد :
أخي الكريم، بشير بساطة، وجيع الإخوة الأكارم ، آمل أن أكون قد وفقت فأوضحت، وأعتذر إن كنت قد فسرت الماءَ ـ بعد الجهد ـ بالماءِ.
لكن ـ على كلِّ حالٍ ـ مــــــــــا رأيُكُـــــــمْ؟
هــــل تلعـــــنُ الملائكــــــةُ الرجـالَ؟
____________________________________________________
* رابط الموضوع الأصلي: http://www.nashiri.net/articles/religious-articles/3036---.html
يحمل الأزواج أحاديث كالسياط يجلدون بها ضعف الزوجة، ويستدرجونها إلى ما يريدون لتكون طيعة، هينة لينة بين أيدهم. كلما تململت ذكَّروها بحديثٍ يُحَمِّلُها مسؤولية هذا التململ، ويخوفونها عذاب الله ـ عزَّ وَجَلَّ ـ وسخطه ، ولعنة الملائكة، وعدم قبول الصلاة، ومن ذلك:
حديث أبي هريرة ، عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله سلّم ـ أنه قال : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت ، فبات غضبانَ عليها ، لعنتها الملائكةُ حتى تُصبِحَ)) . وفي رواية : ((إذا باتت المرأةُ مهاجرةً فراشَ زوجِها لعنتْها الملائكةُ حتى تَرجِعَ))، متفق عليه .
وقريب من هذا قوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : ((ثلاثةٌ لا تُرفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا : ... وامرأةٌ باتت وزوجها عليها ساخط)) . الحديث رُوِيَ عن أكثر من صحابي
، وكلُّ الأسانيد فيها مقال ، لكن يبدو أن للحديث أصلاً .
ومثلهما حديث طَلْق بن عليٍّ ، أن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال : ((إذا الرجل دعا زوجته لحاجته فلتأته ، وإن كانت على التنور)) . الحديث في سنده مقال ، لكن
حسنَّه بعض المحدثين . والحديث الأول يشهد له .
وقوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : ((ما ينبغي لأحدٍ أن يسجد لأحد ، ولو كان أحد ينبغي له أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، لما عظّم الله عليها من حقِّه))
. الحديث صححه الألباني ، وفي النفس من هذا التصحيح شيءٌ ، ليس المقام مقام بيانه .
وقوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : ((أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها طلاقَها من غير بأسٍ ، فحرامٌ عليها رائحةُ الجنَّة)) . والحديث حسن ، أو صحيح.
أنا لست ممن يدعو إلى تمرد المرأة على زوجها ، فالسعادة كلَّ السعادة في التوافق ، واحترام كلٍّ من الزوجين الآخر ، وتحقيق كلٍّ منهما رغبة صاحبه، ومن المعلوم أنَّ من أكبر نعم الله ـ عزَّ وَجَلَّ ـ على الرجل أن يرزق زوجة صالحة تطيعه إذا أمرها، هينة لينة، تستقبل زوجها إذا قدم ببسمة، وتهدهده من مشاق الحياة بمداعبة، وتودعه بقبلة، وتستقبله بأخرى، وهو يبادلها الحب بالحب، والأنس بالأنس.
ولقد عبّر القرآن الكريم عن الرابطة الزوجية ، تعبيراً يرقى بهذه الرابطة إلى مستوى عالٍ جداً ، فقال ـ تعالى ـ : {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ ، وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}. فكل واحدٍ من الزوجين لباسٌ للآخر ، ومن المعروف أن اللباسَ : زينةٌ ، وجمالٌ ، وحمايةٌ ، ودِفءٌ ، وسَترٌ.
لكني قديماً توقفت كثيراً عند هذه الأحاديث التي تطالب الزوجة بحق الزوج ، وتهدد الزوجة التي تسخط زوجها باللعنة ، وعدم قبول الصلاة و... و... .
وكنت أقول: لماذا لا تلعن الملائكة الرجل الذي أرادته زوجته إلى الفراش فأبى؟ مع أن المرأة عندها ما عند الرجل من الرغبة في الفراش؟؟
وهل الرجل الذي أرادته زوجته إلى الفراش فأبى ، فباتت ساخطة عليه لا تقبل صلاته ؛ لأنَّ من حِكَم مشروعية عقد النكاح إحصانُ الرجلِ والمرأة ؟؟
ولماذا حرامٌ على المرأة أن تطلبَ ـ مجرد طلب ـ الطلاقَ من زوجِها ، وحلالٌ على الرجل أن يُطَلِّقَ زوجتَه دون سببٍ ، وأكثر ما ورد من تهديدٍ للرجل الذي يطلق حديث : ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق)) [وهو حديث ليس بصحيح] ، مع أنَّ الأذى الذي يلحق بالمرأة بالطلاق أشد من الأذى الذي يلحق بالرجل؟
فالأذى الذي يلحق بالرجل ماديٌّ ، والمعنويُ قليلٌ، ومن السهل عليه أن يعوض هذه الزوجة بزوجة أخرى ، بينما أذى المرأةِ المطلقةِ : قدحٌ في السمعة ، وتضييقٌ في الحركة ، وإسلامٌ إلى المجهول . واحتمالات التعويض لديها أقلُّ من الرجل بكثير .
مصدر هذه الأسئلة
ومصدرُ هذه الأسئلة ـ من وجهة نظري ـ خطأٌ في فهم النصوص، وعدمُ وضعها في سياقه الحقيقي، دأبْتُ عليه أيَّامَ الصِّغَر اتباعاً لما دَأَبَ عليه أكثرُ علماء المسلمين إن لم يكن جميعُهم .
ورغم أن العلماء ـ رحمهم الله ـ ينبهون إلى أنَّ النصوص الشرعية عامة في الرجال والنساء إلا أنهم حين يأتون إلى نصوص كهذه تخاطب النساء يخصونها بالنساء .
يقول ابن العربي في أحكام القرآن (3/1367) تعليقا على قوله ـ تعالى ـ : {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} يقول :
”قولٌ عامٌّ يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين حسب كل خطاب عام في القرآن ـ على ما بيناه في أصول الفقه ـ إلا أن الله ـ تعالى ـ قد يخص الإناث بالخطاب على طريق التأكيد“
. وقد ذكر ابن رشد الحفيد في البداية (1/172) حديث سمرة بن جندب: أنه قال : ((صليتُ خلفَ رسولِ الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ على أمِّ كعبٍ ، ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ على وسطها)) . قال ابنُ رشد: ”فمنهم من أخذ بحديث سَمُرةَ بنِ جندبٍ للاتفاق على صحته ، فقال: المرأةُ والرجلُ في ذلك سواءٌ ؛ لأن الأصل أن حكمَهما واحدٌ ، إلاّ أن يثبت في ذلك فارقٌ شرعيٌّ“,
ويقول ابن القيم في أعلام الموقعين (1/92) : ”قد استقرَّ في عرف الشارع أن الأحكامَ المذكورةَ صيغة المذكرين ، إذا أطلقت ، ولم تقترن بالمؤنث ـ فإنها تتناولُ الرجالَ والنساءَ“.
وهنا نتساءل : إذا كان الأمر هكذا فلماذا خصصت تلك الأحاديث بالنساء؟ فإني لم أجد واحداً من العلماء ـ فيما رأيت من مصادر قديمة أو حديثة ـ ذكر أن الأحاديث المتقدمة التي تخاطب النساء هي ـ في الوقت نفسه ـ خطاب للرجال ، بل كل ما اطلعت عليه هو التوجه بهذه الخطابات إلى النساء ، فقط!!!!
ألم يقل الله ـ عزَّ وَجَلَّ ـ : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ؟
هل تحمل هذه الدرجة التي ذكرها القرآن كلَّ هذه الامتيازات للرجل؟ إذا رجعنا إلى كتب التفسير نجد أنّ العلماء اختلفوا في تفسيرها على أقوال كثيرة ، لعل أقربها ـ فيما يبدو ـ : الطاعةُ ، أو القوامةُ ، أو أداءُ حقِّها عليه ، وصفحُهُ عن بعض الواجبِ له ، أو عن كلِّه ، يقول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (ما أحبُّ أن أسْتَنْظِفَ جميعَ حقّي عليها ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ يقول : {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}) . وأولى هذه الثلاثة ـ فيما يبدو ـ القوامة ، والطاعة داخلة فيها .
أعتقد أنَّ الفهم الصحيح لهذه الخطابات الشرعية ونحوها : أن نفهمها على أنها موجهة إلى الرجل ، كما هي موجهة للمرأة .
فالدين جاء لبني آدمَ رجالِهِم ونسائِهِم ، وما جاء بصيغة المذكر هو خطابٌ للذكور والإناث ، وكذا ما جاء للإناث هو خطاب للذكور والإناث ، إلاَّ ما هو من خصائص الجنس ، كالعدة ، والحيض ، والحمل . ”أو إلاّ أن يثبت في ذلك فارقٌ شرعيٌّ“ . كما يقول ابن رشد .
فحينما يقول الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.[المائدة: من الآية105] فهو خطاب للمؤمنين والمؤمنات ، وإن جاء بلفظ المذكر .
وحين يقول الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ : إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . [الأنفال:2] فهو خطاب للمؤمنين والمؤمنات ، وإن جاء بلفظ المذكر {الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ} .
وهكذا فالنصوص عامة للرجال والنساء ، سواء أجاءت موجهة إلى الرجال ، أم موجهة إلى النساء .
وكما أن الأحاديث التي تخاطب النساء هي خطاب للرجال ـ أيضاً ـ فالأحاديث التي تخاطب الرجال هي خطاب للنساء، أيضاً:
فحين نهى رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ الرجلَ أن يَتَلَمَّسَ عثراتِِ زوجَتِهِ . [أخرجه مسلم] . فإنه نهيٌ للمرأة ـ أيضاً ـ أن تتلمس عثرات زوجها .
وحين دعا رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ الشباب إلى الزواج فقال: ((يا معشرَ الشبابِ منِ اسْتطاع منكمُ الباءةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ؛ فإنَّه أغضُّ للبصرِ وأحصنُ للفرجِ ، ومن لم يستطع فعليه بالصومِ ؛ فإنه له وِِجَاءٌ)) . فإنَّ هذا الخطابَ دعوةٌ للشابة ، أيضاً .
وحين نبه رسولُ الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ الرجل إلى أنه لا ينبغي له أن يَكرهَ زوجته ، ويفارقها لخلق سيئ فيها ؛ لأنه إن كان منها خلقٌ سَيِّئٌ فلا شكَّ أنّ فيها أخلاقاً حسنةً غيره ، فقال ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ : ((لا يَفرُكْ مؤمنٌ مؤمنةً ، إن كَرِه منها خلقاً رضِيَ منها آخر)) . [أخرجه مسلم] . فهو
تنبيه للمرأة ـ أيضاً ـ أن لا تكره زوجها لخلق سيء فيه ، إن كرهت منه خلقا رضيت منه آخرَ.
وحين قال رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ : ((إنّ مِنْ أشرِّ الناسِ عندَ الله منزلةً يومَ القيامةِ ، الرجلَ يُفضِي إلى امرأتِهِ ، وتُفضِي إليه ، ثُمّ ينشرُ سرَّها)) . [أخرجه مسلم] مُحَذِّراً الرجل أن يُفْشِيَ سرَّ لقائه زوجته في الفراش ، فهو متوجه بالتحذير إلى المرأة ـ أيضاً ـ أن تُفْشِيَ سرَّ زوجِها .
لكن ربما هناك سؤال هو : لماذا يأتي الخطاب موجهاً إلى أحد الجنسين ؟
الجواب : أنه قد يكون المقام الذي قيل فيه هذا الحديث ، أو ذاك ـ هو الذي اقتضى ذلك ، ونحن نعلم أنَّ النبي ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ يجيب السائل بما يتناسب مع حاله . لكن ـ مع الأسف ـ سبب ورود أكثر الأحاديث غير معلومة لنا .
فربما يكون هناك رجل شكا زوجته لرسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ أنها لا تستجيب له ، فقال : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت ، فبات غضبانَ عليها ، لعنتها الملائكةُ حتى تُصبِحَ)) . أو أنه ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ جرى على الغالب ، وهو أنه غالباً ما تكون المبادرة بالطلب ـ لأسباب متعددة ـ من الرجل ، فكان المناسب أن تكون الدعوة للمرأة أن تستجيب.
وربما جاءته ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ زوجة تطلب فراق زوجها ، دون أي مسوِّغٍ لهذا الطلب ، فقال لها : ((أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها طلاقَها من غير بأسٍ...)) .
وربما شكا زوج زوجته بنشوزها عليه ، وعدم طاعتها له ـ لا سيما في مجتمع الأنصار الذي كان تغلب فيه نساؤُه رجالَه ، كما يقول عمر عن الأنصار ـ فقال ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ لتلك الزوجة : ((لو كان أحد ينبغي له أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها...)) .
وأخيراً ، إذا كان ما زعمتُهُ من عموم هذه النصوص صحيحاً :
فلماذا ـ إذن ـ نخاطب بتلك الأحاديث المتقدمة النساء ، ولا نخاطب بها الرجال ؟؟؟
لماذا نقود بتلك الأحاديث المرأة إلى الرجل ، بينما الرجل على عرشه ينتظرها أن تأتي رغبةً ، أو رهبةً ، ولا نقود بها الرجل إلى المرأة؟؟؟
هل ـ فعلاً ـ صدق علينا قول القائل بأن الفقه ذكوريٌّ ؟
هل كان هذا لخلو الساحة ـ مع الأسف ـ من نساء فقيهات ، يتكلَّمْنَ بلسان النساء ، وَيَفْهَمْنَ الأحاديث التي تتحدث عنهنَّ بأحاسيسَ تختلف عن أحاسيسِ الرجل ؟
وأخيراً ـ مرة أخرى ـ :
هل سنجرؤ على أن نقول : إن الرجل الذي يُطَلِّقَ زوجتَهُ من غير بأسٍ ، حرامٌ عليه رائحةُ الجنَّة ؟
وهل سنجرؤ على أن نقول : إن الرجل الذي تدعوه زوجته إلى الفراش ، ولا يستجيبُ لها ـ دون عذرٍ نفسيٍّ أو شرعيٍّ ـ فباتت غَضْبَى عليه ، لعنته الملائكةُ حتى يُصبِحَ ؟
لماذا لا تلعنُ الملائكةُ الرجالَ؟
الدعاء عبادة ، وهو ـ على العموم ـ واجبٌ من الواجبات ، ومن أهم العبادات؛ لأنها تُظهر ذلة الإنسان لله ، وحاجته إليه ، وقد أمر الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ بها في كتابه العزيز ، فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] . فالذين لا يمدون أيديَهم بالدعاء هم أناسٌ مستكبرون ، وسيدخلون جهنم ذليلين ، .جزاء لهم على استكبارهم
ولهذه العبادة آداب علينا أن نلتزم بها ، كما نلتزم بآداب أية عبادة أخرى من العبادات التي تعبدنا الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ بها ، نلتزمُ بها كمَّاً ، وكيفاً ، ومادةً ، وموضوعاً ، على اختلافٍ في قوَّةِ الالتزام والإلزام فيما تقدم .
ويبدو أننا اخترنا تخصيب الأدعية ، كمَّاً ، وكيفاً ، ومادةً ، وموضوعاً ، غير عابئين بالآداب التي أدّبنا بها ربنا ـ سبحانه ـ وأدبنا بها رسوله الكريم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فلم نترك أمراً من أمور دنيانا صغيرها وكبيرها ، أو آخرتنا إلا قضيناه بتلك الأدعية ، من أتفه شيء في هذا الدنيا إلى أعلاه ـ إيجابا ، أو سلباً ـ إلا عرجنا عليه في أدعيتنا . فالإمام يقف أربعين ، أو ثلاثين دقيقة ، وقد بلغ ببعضهم أن وقف ساعة يردد بين يدي الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ كل ما يخطر على البال ، وما لا يخطر .
اللهم زوِّج الشباب العزاب ، والشابات العازبات ، وحصن نساءنا بالحجاب ، ونجح أبناءنا ، ووسع شوارعنا ، مرورا بالمغنين والقنوات الفضائية!!! وانتهاء بأن يجعل عدونا يقتل نفسه بيديه !!!!!!
واجتماعاتنا في إداراتنا التي نعمل فيها تبدأ بدعاء وتنتهي بدعاء . الدعاء ، الدعاء ، الدعاء ... وخطبة الجمعة تبدأ بدعاء قد يكون قصيرا ، ولا بد أن تنتهي بدعاء طويل .
نجمع في أدعيتنا كلَّ دعاءٍ ورد في القرآن الكريم ، و كلَّ دعاءٍ دعا به النبيُّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ثم لكل داعٍ طريقتُه في الحصول على الأدعية التي وردت في الكتب ، يتصيدها ، ويتمنى ألاَّ يعثر عليها أحد غيره .
ثم لكل داعٍ طريقتُه في الابتكار زيادة على ما تقدم : إيراد أسماء الله الحسنى كلِّها ، والدعاء بها واحداً تلو الآخر ، ونعرج بعدها إلى الأنبياء واحداً بعد الآخر ، فندعو الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ أن يعطينا ما أعطاهم ، ثم لا ننسى الحروف العربية من الألف إلى الياء ، ولكلِّ حرفٍ دعاؤه ، ثم نصبُّ جام غضبنا على الأعداء بشتى الدعوات التي تعرفونها (استئصال ، سحق ، محق ، تقتيل...) (اللهم عليك بالكفار والمشركين واليهود ، اللهم لا تبق أحداً منهم في الوجود ، اللهم أفنهم فناءك عاداً وثمود) !!
وجعلنا من تلك الأدعية صواريخ متعددة الأغراض (اللهم لا تدع لهم طائرة إلا أسقطتها ، ولا سفينة إلا أغرقتها ، ولا دبابة إلا نسفتها ، ولا فرقاطة إلا فجرتها ، ولا مدرعة إلا دمرتها ... ...)!!!
وأحياناً يصيب دعاؤنا على الأعداء رسولَنا الكريمَ بالسوء (اللهم عليك باليهود ومن هَاوَدَهُم) مع أنَّ الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ هاود اليهود : أي وادعهم وصالحهم ولاينهم!!!!
ثم نعرج على القبور : (اللهم ارحمنا إذا ثقل منا اللسان ، وارتخت منا اليدان ، وبردت منا القدمان ، ودنا منا الأهل والأصحاب ، وشخصت منا الأبصار ، وغسلنا المغسلون ، وكفننا المكفنون ، وصلى علينا المصلون ، وحملونا على الأعناق ، وارحمنا إذا وضعونا في القبور ، وأهالوا علينا التراب ، وسمعنا منهم وقع الأقدام ، وصرنا في بطون اللحود ، ومراتع الدود ، وجاءنا الملكان... الخ) والناس خلفه يبكون ، ويؤمنون!!!
ويصاحب هذا كلَّه : زعيقٌ يصكُّ الآذان ، وترنيمٌ ثقيلٌ ، ونحيبٌ مُتَكَلَّفٌ ، ونشيجٌ ممجوجٌ . كل هذا في ليلة واحدة ، وفي وقفة واحدة ، ويكاد يتكرر كل ليلة ، لكنه يبلغ المدى الأعلى ، والذروة القصوى ، والقمة العليا ، وتتهيأ لحضوره الناس ، ويأتي الأئمة بما لم يـأتوا هم أنفسهم به فيما سبق من الأيام : ليلة ختم القرآن الكريم ، وليلة السابع والعشرين من رمضان .
وكانت المباريات غير المعلنة بين الأئمة والخطباء : أي منهم يأتي بدعاء لم يأتِ به الأوائل في حياتهم كلها ، ويؤديه أداء دونه أداء الآخرين ، ثم كان دعاء فلان ، ودعاء فلان ، ودعاء فلان ... ، ولكل داعٍ متحمسون ومشجعون ، وأصبح التسابق إلى المساجد يختلف قلَّةً وكثرةً حسب ما شاع عن دعاء إمامها ، وما إن ينتهي الداعي من دعائه حتى تجد إعلاناً عن ذلك الدعاء في محلات التسجيل ، وكل منا يتطلع أن يحضر الدعاء ، وأن يحظى بأكبر قدر ممكن من الأدعية .
ولا أستبعد أن يأتي يومٌ تقيم فيه بعض القنوات، أو إذاعات القرآن الكريم مسابقاتٍ (رشِّح الداعي المفضل عندك) طبعاً لا تنسوا ، لا بد أن يكون الترشيح عن طريق (sms) وكلما اتصلت أكثر مُرَشِّحَاً (داعيك) كلما حالفك الحظ بالحصول على جائزة !!!! وليس هناك من عجب ، فنحن في عصر العولمة ، والتجارةُ تطال كلَّ شيءٍ .
أيها الإخوة الأفاضل :
الدعاء عبادة ، ووقوف بين يدي الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ فهل من المعقول أن ننزل بمستوى هذه العبادة إلى هذا الحد من الابتذال .
الدعاء عبادة ، ووقوف بين يدي الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ فهل من آداب هذه العبادة هذا الصياحُ ، وهذه الضوضاء ؟
الدعاء عبادة ، ووقوف بين يدي الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ فهل من آدابها أن نأتي بألفاظ مبتذلةٍ ، لا يتناسب ذكرها مع عظمة المناجَى؟
الدعاء عبادة ، ووقوف بين يدي الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ فهل من آدابِها التنبيهُ على حاجات لا يليق ذكرها بين يدي الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ وهي مندرجة تحت عموم أكبر منها ؟
فيما يخص رفع الأصوات ، والترنم بالأدعية
اسمعوا إلى ربِّ العالمين يعلم عباده كيفية مناجاته :
ـ {قُلْ : مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، تَدْعُونَهُ : تَضَرُّعاً ، وَخُفْيَةً ، لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ؟} [الأنعام:63] .
ـ {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ : تَضَرُّعاً ، وَخِيفَةً ، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ، وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] .
واسمعوا رب العالمين يمتدح زكريا :
ـ {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا . إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2ـ3] .
واسمعوا إلى رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ يعلم صحابته كيفية الدعاء :
ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال : رفع الناسُ أصواتَهم بالدعاء فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : ((أيُّها الناسُ أرْبعوا على أنفسِكُمْ ، فإنَّكُم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً ، إن الذي تدعون سميعٌ قريبٌ ، أقربُ إلى أحدِكُمْ من عُنُقِ راحلتِهِ)) .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن البصري ، قال : (المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همساً بينهم ، وبين ربهم ، وذلك أن الله ـ تعالى ـ يقول : {ادْعُوا رَبَّكُمْ : تَضَرُّعاً ، وَخُفْيَةً}) .
وقال ابن جريج : (يُكْرَهُ رَفْعُ الصوتِ والنداءُ والصياحُ في الدعاء ، ويُؤمرُ بالتضرع والاستكانة) . والكراهة جاءت لأنَّ رفعَ الصوت بالدعاء يتنافي مع ما تدعو إليه الآيات والحديث النبوي .
ثم من أين لهؤلاء الدعاء على عموم الكفار؟ لم يثبت أن الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ دعا على عموم الكفار ، بل إن رسولنا الكريم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لما جاءه ملك الجبال ، وعرض عليه أن يطبق على الكفار الأخشبين ، قال: ((لا ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ، لا يشرك به شيئا)) .
وحين دعا النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في لحظة غضبٍ على كفارٍ بأعيانهم ، وسماهم بأسمائهم ، فنزل قوله ـ تعالى ـ : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . [آل عمران:128] .
وقد روى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة ، قال : قيل: يا رسول الله ، ادعُ على المشركين . قال : ((إني لم أبعث لَعَّاناً ، وإنما بُعِثْتُ رحمةً)) .
وإن نوحاً ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يدعُ على الكفار بالاستئصال ، إلا بعد أن أوحى الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ إليه : {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} . [هود:36] .
ولهذا لم يدع النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على قريش بالهلاك ، بل قال: ((اللهم ، عليك بهم ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف)) . وهذا دعاء أن يصيبهم الله بضيقٍ في العيش، وهذا التضييق قد يكون من مصلحة الظالم، علَّه يرعوي .
وفيما يخص ذكر ما لا يليق من الأمور بين يدي رب العالمين
يقول اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ {ادْعُوا رَبَّكُمْ : تَضَرُّعاً ، وَخُفْيَةً ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] .
ففي مسند الإمام أحمد عن زياد بن مخراق ، قال : سمعت أبا نعامة ، عن مولى لسعد : أن سعداً سمع ابنا له يدعو ، وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها ، وإستبرقها ، ونحواً من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها . فقال سعدٌ : لقد سألتَ اللهَ خيراً كثيراً ، وَتَعَوَّذْتَ به من شرٍّ كثيرٍ ، وإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : ((إنه سيكون قومٌ يعتدون في الدعاء)) [وفي لفظ : ((يعتدون في الطهور والدعاء))] وقرأ هذه الآية : {ادْعُوا رَبَّكُمْ : تَضَرُّعاً ، وَخُفْيَةً ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وإن بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة ، وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل)) . وإسناده حسن لغيره .
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي نعامة : أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها . فقال : يا بُنَيَّ ، سَلِ اللهَ الجنةَ ، وَعُذْ به من النار ، فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : ((يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور)) . وإسناده حسن لغيره .
واستمع إلى أنس ـ رضي الله عنه ـ يصف دعاء الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : كان أكثر دعاء النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : ((اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار)) متفق عليه .
ولم يُروَ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في دعاء القنوت إلا حديث الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ : ((اللهم أهدينا فيمن هديت...)) .
وعن عائشة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ قالت : ((كان رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ يِسْتَحِبُّ الجوامعَ من الدعاء ، ويدعُ ما سوى ذلك)) . وعنها ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ أوصاها فقال: ((عليك بِجُمَلِ الدعاءِ وجوامِعِهِ ، قولِي : اللهمَّ إِنَّي أسألُكَ مِنَ الخيرِ كلِّهِ عاجِلِهِ وآجلِهِ مَا عَلِمْتُ منهُ وما لم أعلَمْ ، وأعوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِ كُلِّهِ عاجلِهِ وآجلِهِ ما علِمْتُ منه ومَا لَمْ أعلَمْ ، وأسألُكَ الجنةَ وما قرَّبَ إليها مِنْ قوْلٍ أوْ عملٍ ، وأعوذُ بكَ منَ النارِ وما قرَّبَ إليها منْ قولٍ أوْ عملٍ ، وأسألُكَ مما سألَكَ بِهِ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، وأعوذُ بِكَ مِمَّا تعوَّذَ بِهِ محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، وما قضيْتَ لي مِنْ قضاءٍ فاجعل عاقِبَتَهُ رُشْدًا)). حديث صحيح.
افترض أن شخصاً سمح له الملك أن يطلب حاجاته ، فهل من المناسب :
أن يرفع حاجاته بأعلى ما يستطيع من صوتٍ؟
هل المناسب أن يقول له : ثوب زوجتي ممزق ، فهي تحتاج إلى ثوب ؟ وشراك نعلي انقطع ، فهب لي نعلاً ؟ وقلم ولدي ضاع ، فهو محتاج إلى قلم ؟ و .... و .... و ....؟؟؟
ثم هل المناسب أن نجعل من هذه العبادة مادة دعائية وإعلامية ؟
وأترك لكم الحكم على ما تسمعونه من صراخٍ ، وَتَفَنُّنٍ في الأدعية .
الدعاء وبلوغ الغاية
هذا فيما يخص مضمون الدعاء وطريقة أدائه ، وهناك أمر آخر ، وهو ما نؤمله من هذه الأدعية :
هل نظنُّ أننا بهذه الأدعية سنصل إلى ما نتطلع إليه ، دون أن نأخذ بالأسباب التي وضعها الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ وسيلة للوصول إلى الهدف؟؟
لا بُدَّ أنه بهذه الأدعية : ستتحجب النساء السافرات ، ويؤوب إلى ربه الشباب الطائش ، ويتزوج العزاب والعازبات ، وينقلب المغنون إلى دعاة ، وتتحول قنوات التضليل إلى مراكز للبحث العلمي يخصب فيها الجنُّ اليورانيوم ، ويستنسخ بعضٌ من الملائكة الحيوانات ، وتُجري ملائكةٌ أخرى بحوثاً لريادة الفضاء ، وتَبلغ بنا ملائكةٌ أخرى قصبَ السبق في تقنية الصناعة والمعلومات ؟؟ بينما هناك ملائكة تُعِدُّ العدة ، لتجعلَ الصهاينة يقتل بعضهم بعضاً حتى يُفْنِي بعضُهم بعضاً ، ويتحرر العراق ، و... و...
وإذا أردنا الإسراع في الحصول على النتائج ، فما علينا إلاَّ ترديدٌ في الدعاء أكثرُ ، ورفْعٌ في أصواتنا أشدُّ ، وابتكارٌ من الأدعية مُمَيَّزٌ ، فعندها سيكون تحرك الجن والملائكة أسرع ونبلغ الغاية التي نريد بسرعة البرق .
حتى إذا انتهت الملائكة من كل أمر ، وهيؤوا كلَّ النتائج ، ووضعوا أيديَنا على كلِّ ما توصل إليه العلم من تقدم ، واستتب الأمرُ لنتسلم القيادة ، جاءت ملائكة الرحمن بسكينةٍ ووقار ـ ولعلَّ الملائكةَ متهيبون أن يزعجوا هذه الأمة النائمة ، المستغرقة في نومها ـ كي يسلموها مفاتيح الدنيا في احتفال بهيج ، يحضره كلُّ كسالى وعاطلي العالم .
يبدو أن الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ يُدَلِّلُ آخرَ هذه الأمة بما لم يُدَلِّلْ به أوَّلَّها ... فهذا لم يكن لرسوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ولا لأمته السابقة التي تعبت أبدانها ، وكَلَّت أبصارُها ، وواصلت الليل مع النهار في البحث العلمي حتى بلغت ما بلغت .
أين قادة الفتح الإسلامي من هذه الأدعية ؟؟؟
أين من هذه الأدعية علماء الطب ، والكيمياء ، والرياضيات ، والفيزياء من المسلمين السابقين ، إن هؤلاء العلماء لو عرفوا هذه الأدعية ، لما واصلوا الليل بالنهار يجهدون أبدانهم وعقولهم : يبحثون ، ويركبون المواد ، ويجرون التجارب ، حتى كانت أبحاثهم وما توصلوا لي مفتاحاً لهذا التقدم الذي نشهده .
أيُّها الإخوةُ الداعون ، إنّ هذه الأمة لم تبنِ حضارتها السابقة بالأدعية ، وإنما بالأخذ بالأسباب التي جعلها الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ وسائل للحضارة ، ولم تهوِِ في قاع الأمم إلا يوم تخلت عن الأخذ بأسباب الحضارة : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53] .
ولن ترتفع هذه الأمة من هذا القاع ، وتتزحزح من مكانها ـ ولو اجتمعت عن آخرها : رجالُها ونساؤُها ، شيبُها وشبانُها ، شيوخُها وأطفالُها ، وكذا بهائمُها ـ في صعيدٍ واحدٍ ، وواصلوا الليل بالنهار رافعين أكفهم يدعون ، لن تتزحزح من مكانها ، إلاَّ إذا تغيرت من داخلها : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] . هذا قانون ربِّنا ، لم يغيره لرسوله الكريم ، ولن يغيره لنا : {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [الفتح:23] .
يوم نجد مراكز البحث العلمي مزدهرة في بلادنا ـ هذا إن وجدت مراكز ـ ويوم نصرف على البحوث العلمية مثل ما نصرف على الرياضة ، وقنوات الغناء ، ويوم نخصب اليورانيوم ، ونأخذ بتقنية الصناعة ـ لا الصناعة وحدها ـ ويوم يكون لدينا ثروة في المعلومات ، ويوم ...، يوم ...، ويوم ...، في سلسلة طويلة من الطلبات ـ يومها سيسمع الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ طلبنا ، ويؤخذ للنظر فيه ، فإذا استوفت أوراقنا شروطَ قيادةِ العالم ، وَتَصَدُّرِهِ ، فإنه ـ حينئذٍ ، وليس قبله ـ سنكون في الصدارة . {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [الفتح:23] .
أخيراً ـ أخي الكريم القارئ لهذا المقال ـ لي رجـــــــــاء هو :
أن تدعو الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ بكل أسمائه الحسنى ـ بل وباسمه الأعظم ـ ليلك كلَّه ، إلى أن يبح صوتك بالدعاء : أن يتحرك مكتبك من مكانه الذي هو فيه الآن إلى مكان آخر هو خير من المكان الأول ، وأنت جالس على كرسيك!!!! جَرِّبْ ، رجاء ، رجاء ، رجاء !!!
هل جَرَّبْتَ ؟ آمل أن يكون قد استجاب الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ دعاءك وحصلت على ما تريد ...
وأخيراً نرجو من جميع الإخوة الأفاضل ... الذين يأمُّون الناسَ ويدعون ، نتمنى عليهم :
أن يقدروا هذه العبادة الجليلة ،
وأن يحترموا مقامهم ومقامنا بين يدي ربهم ،
وأن يعطوا هذه المناجاة حقَّها من السكينةِ ، والوقارِ ، والخشوعِ ،
وألاَّ يجعلوا من الأدعية ميداناً للمسابقات فيما بينهم .
وأن يتخيروا للمسلمين الذين أمنوهم على أن يكونوا أئمتهم في الدعاء ـ يتخيروا لهم من أدعية القرآن الكريم ، وأدعية الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وعباد الله الصالحين ، فإنَّ فيها الخيرَ كلَّ الخير ، وهي الجامعة لكل ما يحتاجه المسلم ، وتحتاجه الأمة ، دون إسفاف ، أو مبالغة ، أو تكلف ، والله من وراء القصد .
الصفحة 15 من 17