قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿١١﴾} (المجادلة: 11).
يقول الإمام الطبري في تفسير الآية: "ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به". [1]
وورد في الحديث عن جابر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معلم الخير يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحار». [2]
ويقول الشيخ أحمد حطيبة: " لقد رفع الله عز وجل من منزلة العلماء، ورفع مكانتهم وقدرهم، فهم ورثة الأنبياء، وحراس الدين، والمبلغون الموقعون عن الله عز وجل في خلقه؛ فلهذا كان لهم أجر الحاج الذاهب إلى بيت الله، ويستغفر لهم كل مخلوق على وجه الأرض، وحق لهم ذلك فلقد ورثوا هذا الدين، وبلغوه إلى الخلق أجمعين، وميزوا فيه الصحيح من السقيم". [3]
مقدمة:
من المشكلات التي تواجهها اليوم العلوم الإسلامية تدخل غير المتخصصين في مجال التعليم الديني والعمل الدعوي.. فترى من ليس له شهادة تخصصية في العلوم الدنيوية يقوم بالإفتاء، وبالتدريس وتقديم المشورة لعامة الناس وهو غير مؤهل لذلك، ولم يتلق تعليما إسلاميا نظاميا في الجامعات والمعاهد الإسلامية وقبل ذلك لم يكن له حظ في دراسته وتلقيه العلم على المشايخ والعلماء المشهود لهم بالعلم والورع والتقوى ومخافة الله سبحانه وتعالى.. إن تدخل غير المتخصصين في العلوم الإسلامية في مجال العلم الإسلامي والعمل الدعوي من الممكن أن يؤدي إلى كوارث لا يحمد عقباها سواء في مجال التفكير الديني والعمل الإسلامي على حد سواء..
ففي الطب الطبيب وحده له الحق بتحديد العلاج، وفي الهندسة المهندس وحده له الحق بتنفيذ التصاميم الهندسية. وفي الفيزياء الفيزيائي وحده له الحق في تحديد القوانين الفيزيائية. وفي الكيمياء الكيميائي وحده له الحق في كتابة المعادلات الكيميائية.
في حين أصبحنا نرى اليوم في مجال العلوم الإسلامية والمسائل الشرعية أن كل من هب ودب يصدر الأحكام الشرعية ويناقش في التفسير والحديث وكأنه لا يوجد تخصص اسمه العلوم الإسلامية ولا علماء ربانيون من الله عليهم بميراث محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
بعد أربعين عاماً... كنتُ أَوَدُّ لو تَرَكَتُ " خَوَاطِرَ في زَمَنِ المِحْنَةِ " كما هو في مَادَّتِهِ "الخَامِ " الأُولَى، التي كُتِبَ بها، ما بين عَامَي 1975 و 1985، بِقَلَمٍ شابٍّ غَضٍّ ثَائِرٍ، لكن مُرورَ أربَعَةِ عُقُودٍ على الكِتَابِ وكاتِبَتِهِ، واِلْتِبَاسِ بَعضِ الصِّياغاتِ اللُّغَوِيَّةِ، كما بَعْضِ المعانِي الهامة في الأذهان، وتَطَوُّرَ فَهْمِنا المُعَاصِرِ لبعض المَسَائِلِ والمُصْطَلَحَاتِ، وضَرورَةَ التَّوَجُّهِ بالكتاب إلى شَرِيحَةٍ أكبر وأوسع من الشَّرِيحَةِ التي اِنْطَلَقَ من بِيئَتِهَا وكُتِبَ لها في حِينِهِ . .. كُلُّ هذا اِسْتَدْعَى اليوم القِيَامَ بهذه المُهِمَّةِ "شِبْهِ المُسْتَحِيلَةِ"، وهي: إِعَادَةُ كِتَابَةِ الكِتَابِ مِنْ جَدِيدٍ، وتحديثُ وتَوثيقُ نُصُوصِهِ، مع محاولة الحِفَاظِ على أفكارِه وأسلوبِه ورُوحِهُ ولُغَتِهِ الأَصْلِيَّةِ.
لاقَى الكِتاب - بفضل اَللَّهِ تعالى- خلال العُقودِ الأربعة السَّابقةِ، إِقْبَالاً مُلْفِتًا، مِنْ قِبَلِ شَرِيحَةٍ واسِعَةٍ مِنَ الشَّبابِ - والإِسلامِيِّينَ منهم على وجه التَّخْصِيصِ- وفي كافَّةِ بُلْدانِ المِنْطَقَةِ العربيَّةِ وخارِجَها، ودون أي نوع ٍ مِنْ أنواع الدّعَايَةِ أو التَّرْوِيجِ، و ما زال الأمر كذلِك حتى اليوم في عَصْرِ مَواقِعِ التَّوَاصُلِ الإِلكترونيَّةِ - الاِجتِماعيَّة .. وربما كان ذلك بسبب عَفويَّتِهِ ومُخاطَبَتِهِ الشباب بِلُغَتِهِمْ وطَرِيقَةِ تَفكِيرِهِمْ.
في سيرة الإمام الشيخ محمد الخضر حسين كتب عمر رضا كحالة قائلاً: محمد الخضر حسين عالم، كاتب، أصله من الجزائر، ولد في قفصة، منطقة الجريد بتونس، حيث نشأ، حصل على المعرفة في جامعة الزيتونة، نال منها الشهادة العالمية، قام بالتدريس، أسس مجلة، تولى رئاسة الجامعة، وتولى القضاء الشرعي في مدينة بنزرت، ثم هاجر إلى دمشق، ودرس في مدارسها الرسمية والخاصة، وسافر إلى القسطنطينية، وتولى تحرير القلم العربي ثم عاد إلى دمشق، وبعدها سافر إلى مصر وتم تعيينه مدققاً لغوياً في القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، ودخل امتحان شهادة الأزهر العالمية التي يستحقها، ثم عين عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وولي أمر مشيخة الأزهر، وتوفي في القاهرة في الثاني عشر من رجب، ودفن في تراب آل تيمور. من تصنيفاته: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق"، "نقض كتاب في الأدب الجاهلي لطه حسين"، "رسالة في السيرة النبوية"، "موجز في آداب الحرب في الإسلام"، و"القياس في اللغة العربية" (ينظر: عمر رضا كحالة: "معجم المؤلفين"، مكتبة المثنى - بيروت، دار إحياء التراث العربي بيروت، 9/ 279 – 280).
قيمة الوفاء في تاريخ العلم في الإسلام:
يحفل تاريخنا العلمي في الإسلام بنماذج مشرفة من العلاقة الأبوية الحنونة بين الشيخ والتلميذ. ولا عجب في ذلك، ففي تاريخ العلم في الإسلام التعليم له مكانة مهمة ومتميزة جدا، فالعلم لله أولا وآخرا.. هذا يعني أن الأستاذ يعلم الطالب العلم النافع له في الدنيا والآخرة.. فقضية التعليم في الإسلام ليست قضية وضعية منطقية محضة، بل هي مرتبطة بالتوجيه الديني الأساس أن كل شيء من الله ولله سبحانه.
في تاريخنا العلمي الإسلامي نماذج مشرقة وجميلة للغاية من الوفاء بين الطالب والأستاذ، وبين الشيخ والتلميذ أيضا.. فلو تابعنا سير الصحابة رضوان الله عليهم لوجدنا كم كان الصحابة رضي الله عنهم أوفياء لمعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهذا الوفاء انعكس على علاقة التابعين بمشايخهم من الصحابة مثلا نافع تلميذ ابن عمر رضي الله عنهم، مجاهد تلميذ ابن عباس رضي الله عنه، علقمة بن قيس تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهكذا.
ولو انتقلنا إلى عصر الأئمة الكبار لوجدنا قصصا كثيرة من تاريخ العلم في الإسلام لوفاء التلميذ بأستاذه، من ذلك وفاء أبي حنيفة لشيخه حماد بن أبي سليمان، ووفاء أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني لشيخهم أبي حنيفة، ووفاء الإمام الشافعي لشيخه الإمام مالك، ووفاء الإمام أحمد بن حنبل لشيخه الإمام الشافعي..
ثم وفاء الإمام الغزالي بشيخه الجويني، ووفاء الإمام ابن قيم الجوزية لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية.. وغير ذلك الكثير جدا..
كان الإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي رحمه الله واحدا من أولئك العلماء الأبرار الأوفياء لمشايخهم، فقد عرف عنه رحمه الله أنه كان شديد الوفاء لشيخه الإمام محمد عبده رحمهما الله.
الدواء الجسدي والدواء القلبي:
في الحكمة الإسلامية نجد أن الأمراض الإنسانية نوعان، فمنها ما هو جسدي، ومنها ما روحي أو قلبي.
ففي الأمراض الجسدية، نجد الحديث الاتي: عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم أن رجلا في زمان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] جرح فاحتقن الجرح بالدم وأن الرجل دعا برجلين من بني أنمار فنظرا إليه فقال لهما رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " أيكما، أطب؟ ". فقالا: أفي الطب خير، يا رسول الله؟ [صلى الله عليه وسلم]: " أنزل الدواء الذي أنزل الداء ". فأمرهما رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يومئذ بمداواته فبطا الجرح وغسلاه ثم خاطاه (ينظر: موطأ مالك بن أنس، صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، ١٤٠٦ هـ - ١٩٨٥ م، 2/ 121).
أما ما هو روحي أو قلبي فهو ما يعالجه الشيخ ابن القيم في كتابه (الداء والدواء) وهو ما عالجه علماء مسلمون كثيرون قبله.
الصفحة 5 من 432