قلبي ينادي حين لات مجيبُ ** فلقد دهته نوازلٌ وخطوبُ
يا صوتَ مجروحِ الفؤادِ ترفقي ** فبكل حرف تنطقين نحيبُ
واهمي على ولهي بزخات الهوى ** فربيع قلبي صائف وجديبُ
أنت التي أشعلت نصف بلاغتي ** وأنا بحرفك شاعر وأديبُ
ذلك البيت لم ترض روحي أن تبرح حتى تبلغ مَجمعَه أو تمضيَ حُقُباً، خرَّ سقفُه وتداعت جدرانه.. ففاضت نفسي عندما رأيت صورته لما كان فيه من ذكريات الطفولة ومراتع الصبا، ولما حضرني من حديث جدرانه عن ذكريات من عاشوا فيه وسبقوني إلى الدار الآخرة، فقلت:
أَلا اسكُبْ بِـ بيتَ الجَنِّ دمعَ الجَوى رِيّا *** وسَائلْ حَمامَ الدَّارِ إمَّا يكنْ حَيّا
أيحفظُ مِنْ وَجْهِ الأحبَّةِ صُورةً *** لِنارٍ بذِكْرِ الدَّارِ قدْ أُضْرِمَتْ فِيّا؟
أمَا زالَ في السَّاحاتِ وَعْدُ رُجوعِهم *** أَمِ اسْتَوحشَ البُنيانُ إنساً وجنّيّا؟
ليس في قلبي خيالٌ يتهادَى جانباهْ
أنتِ فيه، أنتِ، لا ذكراكِ، من نبْعِ مُناهْ
لستِ من ماضٍ وما وجهُكِ رسْماً لا يراهْ
أنت خفقٌ ولُبابٌ وترانيمُ حياهْ
فإذا عنكِ سها في خفقةٍ كانَ انتهاهْ
يا حبيباً راحَ عني نائيَ الدارِ بعيدا
لم تكن أيامُنا إذ أقبلتْ إلا نشيدا
كم أعدْناهُ وقلنا يومُنا طارَ سعيدا
وحلَمنا، لم يُصِبْ خاطرَنا حُلمٌ سواهْ
وصحَوْنا فلقِينا ما حَوَالَينا فلاهْ
يومَ ناديتِ اسْتفاقتْ عبَراتُ الاشْتياقْ
ولسانُ الوجْدِ ما غادرَ أوجاعَ الفراقْ
وشكَونا من زمانٍ نَصْلُ أسهُمِه احْتراقْ
شبَّ في الجرحِ أنينٌ، والجَوَى بعضُ صَداهْ
وبدت ساعاتُنا دقاتِها لهْفاً وآهْ
أيها القلبُ تأمّلْ، قد دنا كنْزُ الجمالْ
أيَرَى خفقُكَ طُوباهُ بأوصابِ الوصالْ
أيُّ وصلٍ هانئٌ والوصلُ إمّا تمَّ زالْ
فإذا أنتَ كطيرٍ تاهَ في دربِ سمَاهْ
وإذا الشَّريانُ محمولٌ على ما قد جَناهْ
لو أن في زمني رجوعاً لانْقلبْتُ على الخطَطْ
وصبَغْتُ أيامَ البرا ءةِ بالشَّقاوةِ واللغَطْ
واخترتُ ما اشتهتِ الطفولةُ من حلاوتِها فقطْ
ولَهَوتُ فوقَ الرَّملِ بالألعابِ أو رَكْضاً ونَطّْ
وتركتُ ما قالَ المعلِّمُ: أنتَ في الغَدِ مُغتَبَطْ
اجْعلْ غداً لكَ غايةً واليومَ جِسْراً في الوسَطْ
واحْمِلْ إليه قلبَكَ الطمّاحَ بالصبْرِ انْضبَطْ
أذْكَى بقولتِه الخيالَ فما تهيّبْتُ الشَّطَطْ
وبقيتُ بالغدِ أحْتمي ولأجلهِ يومي سقَطْ
حتى إذا وافَى غَدِيْ أضحى له غداً الْمحَطّْ
يومي، غدٌ للأمس، أعْرضَ عن مكانته، هبَطْ
أمضيتُ عمري كلَّه أبغي غداً ما جاء قطّْ
وظللتُ ألهثُ ثم ألهثُ ثم ألْ... يا لَلعَبَطْ
حتى إذا جرْيِيْ وهَى والخطْوُ أثْقلَ أو ثبَطْ
وعلمتُ أن سِهامَ عُمْري كلَّها طاشتْ غلطْ
وعلمتُ أنَّ غداً مخادَعةٌ وتسويفٌ ومَطّْ
وعلمتُ أنَّ غداً خيالٌ كان في قولٍ وخطّْ
عادتْ عيوني كي تُدارِكَ ما بِحَيْرَتِها ارتبَطْ
فإذا الذي لاقَيْتُهُ أمسٌ غريقَ الدمعِ شَطّْ
ما بينَ آتٍ في غدٍ أو رائحٍ يومي انْفرَطْ
قل لها: مَن ذا يُداوي والِهاً
داؤهُ إلفٌ تناءَى والفراقُ
عِلّةُ الوالِهِ لا يُبرئُها
كَلِمٌ أو بَسْمةٌ أو اشْتياقُ
جمْرةٌ يَغلي بها القلبُ ولا
يتسلّاهُ بَنانٌ أو عِناقُ
قلْ: لها ذِكْرَى ورسْمٌ هامِسٌ
وهما للرّوحِ سُقْمٌ واحْتراقُ
فيهما تَسبحُ أنفاسٌ فإنْ
حَدّثا فالشَّجْوُ فيضٌ وانطلاقُ
فيهما عينانِ ما أخطأَتا
وشِفاهٌ وِرْدُها الخمْرُ العِتاقُ
يا لَيومٍ غَدُهُ آهٍ وكمْ
مرَّ بالخاطرِ والصَّبرُ اخْتناقُ
هل تذكّرتِ وقد طارَ بنا
نغَمٌ فيه لقلبَينا اتّفاقُ
أو مكانٌ سُرَّ فيه شملُنا
كطيورٍ لم يقيِّدْها رُِواقُ
أو ظلالٌ تتخطّى سيرَنا
أو رياضٌ أو طريقٌ أو زُقاقُ
يا جميلَ الوجهِ، في إقبالها
للنهاياتِ الشرايينُ تُساقُ
كنتِ تدرينَ وصارَ الافْتراقُ
فلماذا الوجَعُ الآنَ يُراقُ
زارني طيفٌ حبيبُ وجْهُهُ أُنْسٌ وطِيبُ
جاءَ، ما أفزَعَهُ شرٌّ حَوالَيهِ قريبُ
ودَنا، في مُقلَتيهِ رُسُلُ الوصْلِ سَكوبُ
مَدّ لي كفَّينِ كانتْ فيهما رُوحي تذوبُ
بهما لامَسَني حتى بدَتْ نفْسي تثُوبُ
قال أهلاً، واكْتفَى ما زادَنِي حَرْفاً، غريبُ
قلتُ مَرحَى أنتَ للرُّوحِ سَقامٌ وطبيبُ
أنتَ في عينيَّ دَوماً لا تُغشّيكَ الغُيوبُ
أنتَ نبراسٌ لدُنيايَ التي فيها أجُوبُ
وإذا قلتَ نمَا نبْضي فتلْقاني الدُّروبُ
قالَ إنَّ البُعدَ أعْياني وما ثَمَّ هروبُ
وكَوَى قلبيَ حتى جفَّ في قلبي الكُروبُ
وطعِمتُ المُرَّ حتى لم يعُدْ حُلْواً عَذيبُ
إنني مثلُكَ، عن رؤياكَ عَينيْ لا تَتوبُ
غيرَ أنْ ليسَ لقاءٌ لا يُواريهِ الغُروبُ
ولئِنْ جادتْ بهِ الصَّحْوةُ فالحَظُّ عجيبُ!
بغِنوة وافانيَ الرَّسولُ
ما فاتَ لا أنسَى ولا يؤولُ
أيامنا تجري به والأسى
مستعرٌ وعبرةٌ هطولُ
وكنتُ في ليلي على جمرةٍ
تقلُّبي وحسرةٍ تطولُ
وإنْ بدا الصبحُ طويتُ الذي
أسررْتُهُ، سكتُّ لا أقولُ
وحُمِّل الفؤادُ ما لم تكن
تحملُه الشمُّ ولا السهولُ
الآن تأتي؟! (لسّهْ فاكرْ)؟ وهل
تحسبُ قلبي عنكَ لا يميلُ؟
تحسبُني ولْهَى وملهوفةً
وما بدا يبقى ولا يزولُ؟
ليس الذي ولّى سوى صَرّةٍ
لذكرياتٍ ظلُّها هزيلُ
************
أجلْ! فما زلتُ، وما كان في
قلبيَ سهْوٌ عنكِ أو ذهولُ
كنتِ أليفي وجليسي وما
من أحدٍ غيرُكِ لي خليلُ
فاسمُكِ أُنْسي وصفيِّي ولو
نأى مقامي بي أو الرحيلُ
أنتِ عبيرُ الزادِ، أنتِ التي
في الكأسِ يزهو طيفُكِ الكحيلُ
كنتِ معي لم تغِبي لحظةً
كنتِ رفيقاً حيثما أجولُ
كان حديثي لكِ همْساً وكم
ضجّ لساني فدرى عذولُ
فظنَّ بي جهالةً أو حقاً
بأنني المجنونُ أو جميلُ
إن الذي لاقَيتِ قد ذقتُهُ
ما رمَّه النسيانُ والأفولُ
وإنني ما زلت ظامي الحشا
لا برَدٌ يَشْفي ولا بَليلُ
الصفحة 2 من 5