أود في البداية أن أوضح أمرًا مهمًا ألا وهو أنني لست ضد أن تثور الشعوب لتحصل على حريتها وكرامتها وتستعيد مجد أمتها وتحصل على المكانة التي تليق بها بين الأمم. بل على العكس من ذلك فإنني ممن يؤيدون هذا وبشدة وعندي قناعة تامة أنه لا تقدم ولا رقي وازدهار لهذه الأمة إلا من خلال الحصول على الحرية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص، وكل تلك المسميات النبيلة التي لا نعرف عنها إلا ما نسمعه عن الدول الغربية وطريقة تعامل الحكومات مع شعوبها وطريقة تعامل مواطنيها فيما بين بعضهم البعض، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه وبشدة في تلك اللحظة الفارقة في تاريخ أمتنا: هل ما يحدث الآن في تلك المنطقة (المنطقة العربية) والذي تسميه الولايات المتحدة بـ (بثورات الربيع العربي) حراكًا شعبيًا محض (ثورات عربية) أم فخ وقعنا فيه (فوضى خلاقة)؟!
هنري كامبل بانرمان، رئيس وزراء بريطانيا في الفترة ما بين 1905-1908م.
"إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حدٍّ ما ثم تنحل رويدًا رويدًا ثم تزول، والتاريخ ملئ بمثل هذه التطورات، وهو لا يتغير بالنسبة لكل نهضة ولكل أمة، فهناك إمبراطوريات: روما، أثينا، الهند والصين وقبلها بابل وآشور والفراعنة وغيرهم.
فهل لديكم أسباب أو وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوروبي وانهياره أو تؤخر مصيره؟
وقد بلغ الآن الذروة وأصبحت أوروبا قارة قديمة استنفدت مواردها وشاخت مصالحها، بينما لا يزال العالم الآخر في صرح شبابه يتطلع إلى المزيد من العلم والتنظيم والرفاهية، هذه هي مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وسيطرتنا."
تلك كانت الكلمة الافتتاحية لرئيس وزراء بريطانيا في المؤتمر المزعوم الذي عُقد في الفترة ما بين 1906 وحتى 1907، وكان أول من أشار إلى تلك الوثيقة باحث هندي كان يقوم بالبحث في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية في عام 1937 ويبدو أنه توصل إليها عندما كان في لندن في إحدى الجامعات البريطانية، ولكن فيما بعد فقد اختفت هذه الوثيقة تمامًا ولم يعثر لها على أثر، ولكن هل اختفاء هذه الوثيقة يعني عدم وجودها؟ بالطبع لا.
في البداية لابد لنا من أن نعرف بأن توجيه الرأي العام وبناء فكرة معينة عن شيء ما أو وصف شريحة معينة بصفةٍ ما ليست بالمهمة السهلة كما يظن البعض، وأن هذا يحتاج إلى الكثير من العمل والوقت والتكرار والتغيير ولكن على نفس النمط والأسلوب وإنما يكون التغيير في الإستراتيجيات التي يمكن تناول هذه الفكرة بها. والأهم من ذلك كله أن تستعين بأشخاص لا يملكون ضميرًا حيًّا في عرض تلك الأفكار.
وهنا نتذكر مقولة وزير إعلام هتلر المدعو جوزيف غوبلز: «أعطني إعلامًا بلا ضمير أُعطيك شعبًا بلا وعي»، وفي هذا إشارة إلى ما يمكن للإعلام فعله من توجيه الرأي العام وبناء صورة نمطية عن الأمور التي يتناولها بتكرار حتى يمكنه بعد ذلك من قلب الحقائق وتغيير الصورة الذهنية للشعوب.
نتحدث هنا عن نظرة المجتمع الغربي بشكل عام والمجتمع الأمريكي بشكل خاص للشخصية العربية بشكل خاص، والشخصية المسلمة بشكل عام. وهنا نعود بالزمن إلى الوراء حوالي قرن من الزمان حيث أنه وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأت تلك الحملة الموجهة لتشويه صورة الرجل والمرأة والشيخ والطفل العربي وإظهارها بمظاهر مختلفة جميعها تحط من قدر هذه الشخصية فإنك إما تجدها شخصية قاتلة متوحشة متعطشة دائماً للدماء، أو شخصًا مغتصبًا متعصبًا ثريًّا لما يملكه من النفط، أو شخصًا لعوبًا (زير نساء)، أو مسيئًا إلى النساء، أو مستهترًا، أو أهبلَ، أو امرأة ترتدي بدلة رقص وتضع على وجهها نقاب، أو شيخًا كبيرًا في فيلم ما من تلك الأفلام التي تعرضها هوليوود بلحية سوداء وغترة وعقال ونظارة سوداء ينزل من سيارة فارهة (ليموزين) ومن خلفه العديد من النساء في صورة جواري أو أو...
هل قتل السلطان العثماني مراد الرابع عام 1638 البطريرك اليوناني كيريللس الثالث؟
السلطان مراد الرابع
عكفت على سيرة بطريرك الروم الأرثوذكس في القسطنطينية "سيريلو لوكاريس"Cirilo Lúcaris ) "1572-1638) والذي سمي فيما بعد "كيريللُس الثالث"، باعتباره كاتب تاسع ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم(1). وكان غرضي أن اختصرها في أربعة أسطر كتعريف بصاحب الترجمة. لكني وجدت في النهاية اتهامًا للسلطان العثماني مراد الرابع بقتله، دون أي مقدمات تبرر ذلك، وكانت الأدلة الظرفية تشير إلى جهة أخرى، فاضطررت لإعادة القراءة والتدقيق فيها لأتبيّن صحة هذا الخبر.
عالج الفيلسوف الألماني كانط في القسم الثاني من كتاب " النزاع بين الكليات" الذي نشرمنذ عشر سنوات بعد اندلاع الثورة الفرنسية عام( 1798)م، سؤالا خاصاً بفلسفة التاريخ: هل النوع البشري في تقدم دائم نحو الأحسن؟ وفيه قدم تأويلاً فلسفيًا طريفا للثورة يقرأها لا في حدثيتها أو وقائعيتها التي قد تفضي إلى انهيار صروح راسخة معها يصبح من كانوا عبيدًا بالأمس أسيادًا اليوم، أو قد " تكون مليئة بالبؤس والأعمال الفظيعة"، بل في الحماسة التي قوبلت بها عند غير المشتركين فيها، وهو الأمر الذي رأى فيه كانط أمارة على استعداد خلقي لتقدم البشرية، بل وتجسيدا له. قبل تسليط الضوء على هذه القراءة " الطريفة" لنطرح سؤالا : أية علاقة يمكن إقامتها بين أحداث سياسية صرف ( انتفاضات- ثورات) تجري هنا أو هناك في هذا الوقت أو ذاك، وبين أمر يمس الإنسان لا بوصفه جنسًا، بل بوصفه " جماع البشر المجتمعين على الأرض في مجتمع والموزعين إلى شعوب"، ويمس التاريخ كله، ماضيه وحاضره ومستقبله ( أي تقدم النوع البشري بأكمله)؟ على أي أساس يمكن الجزم بأن النوع البشري في تقدم، و" التنبؤ" بأنه سيواصل هذا التقدم نحو الأحسن؟ هل على شاكلة ما يفعل رجال السياسة الذين يفسدون بمكرهم وسوء مخططاتهم ضمائر الناس، ثم يعاملونهم بعد ذلك معاملة الوسائل، متنبئين بأنه إن لم تشدد القبضة عليهم ثاروا وعصوا؟ أم على شاكلة رجال الدين الذين يتنبأون بأن الساعة قد اقتربت وبأن زمان المسيح الدجال قد حان، فلا يعملون من خلال إلزام الناس بشعائر وطقوس تاريخية مغرقة في الشكليات إلا على حدوث ما يتبئاون به ( قلة الدين والبعد عنه)؟
تقف الممانعة التاريخية والعناد التاريخي في هويتنا بين الفكر والممارسة مما يستوجب منا كأمة منتفضة على واقعها النظر إلى هذا الحدث "انتفاضة الشعوب العربية"، وإلى تداعياته بعين لا بسيطة ولا مختزلة لأزمنة ولت، وأخرى مستقبلة.
إن أغاليط منهجية في الفكر السياسي الحديث، وتجاهلات مقصودة للمخزون الثقافي لا يمكن أن تبني عهدًا جديدًا، لم يعد ثمة وقت لمشروع ثورة أو مشروع انتخاب أو مشروع ترشيح إذ لا بد من الخروج الواعي من فوضى المعاني إلى صريح المواجهة.
إن الإعلان عن جولة جديدة من الانتخاب والترشيح لا يعني الإعلان عن تجربة جديدة؛ بل ينبغي إعادة التفكير في أساليب العمل السياسي وفق سؤال أي مرشح نريد؟
فالإخفاقات المقصودة وتلك المبنية على طبيعة التجربة الذاتية تعلمنا الدرس الأول: أن معركة في الفكر والسياسة والمجتمع والتاريخ بعناصرهم المكتملة والمتقاطعة تقلص من إمكانية النجاح في غياب المضمون الانتخابي بعدم توفر الخيار الحر وغير المزيف بين بديلين على الأقل، إنه أول الوهن.
إذا تدحرجت أحجار وعظام وأفرع وأشواك في أودية بها أحجار وعظام وأفرع وأشواك، وزعم خبير أنها تتدحرج بفعل كذا، وتكثر وتقل بفعل كذا، وتتجمع وتتفرق بفعل كذا، وتسلك يمنة ويسرة بفعل كذا، وستكون نهايتها كذا وكذا، فقد نقبل وقد لا نقبل منه؛ فحديثه ليس عن ثوابت ولا عن أرض سوية، فكيف بمئات لا يقبل عاقل أنهم جميعًا خبراء، وأن حججهم دامغة، وكيف إذا اختلفت أحاديثهم وتضادت عن الدوافع والنتائج لفوضى حاصلة في ظلمات ومتاهات؟
الذي سمي ابتداء وترجمة حرفية بالربيع العربي محركاته ودوافعه وملحقاته وأرضه ومسالكه ومن فيه وما فيه، وما دخل فيه وخرج منه، أمور كثيرة أقلها واضح، وجلها غائب ومتقلب ومفاجيء كأحجار في غبار تتداعى في شعاب وصدوع، ما هذا السيل العجيب المغرق من الكتابات والمقابلات والكلمات حول ما سمي بالربيع العربي وتلك هي حالة؟ أي عاقل يرى تضارب خاسرين ومستفيدين وبائسين ومغرضين وغافلين وعامدين وصادقين مزيفين ومخلصين ومنتفعين ومنغمرين ومشتهرين، ويرى فتنًا في فتن وركام عقود يتهاوى كما يحصل في مصر وغيرها، ويقول أي شيء سوى اللهم سلّم، ما أعجب سباق العناوين والمقالات والمقابلات المكومة كل يوم، كأن أصحابها مطلعون على المقاصد، ضامنون للمسالك والمؤثرات الداخلية والخارجية والظاهرة والخفية ويعلمون بالنهايات، صارت الكتابة والكلام غاية وإثبات وجود، واستحال الربيع العربي ربيعًا للألسن وللأقلام وللصور وللأسماء. إن طابق حدَثٌ مقولة قائل فهو صدفة وحظ مفرح يثبت به رجاحة علمه وتوقعاته، فتن مؤلمة مبكية فتن خراب، وكلام وكتابة، أعاذنا الله وإياكم منها ورد عقولنا وأنار بصائرنا لنستدبر ونوقف أكثر ما يقال ويكتب لأنه لغط وتضييع للوقت والعقل، يثير ويوقد أكثر مما يسكن ويطفيء.
الصفحة 5 من 104