أتذكر من طفولتي أن شوكولاتة "فْليك" (وبعض المنتجات الأخرى أيضا) كانت شيئا ثمينا جدا، يُجلب للأحباب "صوغةً" حين القفول من السفر. تلك كانت مقاطعة رسمية حكومية تمنع دخول منتجات الشركات التي لها صلة مع الكيان الصهيوني. وحدث ما نعرفه جميعا: "كل ممنوع مرغوب"، ولقت هذه المنتجات رواجا عظيما. وهذا درس ثمين في فن المقاطعة: المبادرة يجب أن تبدأ من الجماهير، من قاعدة الهرم لا أعلاه.
كبرنا، وجاءت في 2005 أزمة "يولاندس بوستن" التي نشرت رسوما مسيئة للنبي -عليه الصلاة السلام- وأعادت مطبوعات أوربية أخرى نشرها تضامنا معها. فكانت نتيجتها مقاطعة شعبية كاسحة، ومظاهرات غاضبة، وأعمال عنف، بالإضافة إلى تصريحات رسمية شديدة اللهجة. اعتذرت الصحيفة اعتذارا مواربا. هدأت السَوْرة مع الوقت، وعدنا نستهلك الزبدة الدنماركية وكريمات الفيوسيدين!
إن الأزمات لها طبيعة خاصة وتشكل ضغوطا غير عادية وتهدد السلامة العامة، وتتسم بأخطارها الكبيرة المتسارعة، والتي تفرض على متخذ القرارات اتخاذ منحى آخر غير معتاد عند اتخاذ القرارات التي تكون لها طبيعة مختلفة ومتفردة عن القرارات في الأوقات المعتادة من حيث عدة اعتبارات، من أبرزها ما يلي:
1-القرارات في أوقات الأزمات قرارات استثنائية أي لا تستند على النظم والقواعد واللوائح؛ ؛ حيث يعمل متخذ القرار على إنقاذ المجتمع أو الأفراد أو الأعمال من الانهيار، فالقرارات في أوقات الأزمات تكسر القواعد واللوائح والنظم التي صيغت استنادا إلى الظروف المعتادة وليست الطارئة الاستثنائية.
2- القرارات في أوقات الأزمات تكون غالبا من خارج الصندوق؛ أي تتسم بالتفكير الإبداعي والابتكار؛ حيث يطلق متخذ القرار ومجموعته المعاونة العنان لكافة الأفكار غير المعتادة وغير المألوفة؛ لأن المعيار الرئيسي هو إنقاذ مجتمع أو أفراد أو أعمال أو اقتصاد أو أي أمر آخر من الانهيار والفقدان.
إذا كانت من حيلة قد انطلت على العرب المعاصرين فلن تكون غير السقوط كضحية أو فريسة في براثن وهم الإعلام المعولم والموجه والهدام في الآن نفسه، والذي يشكل في الحقيقة من حيث التأثير والتوجيه قوة طيعة في خدمة الدوائر الاقتصادية والسياسية العالمية المعاصرة، وريثة الاستعمار أو الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، الشركات العابرة للقارات ولوبيات الطاقة وصناعة وتجارة السلاح. على أساس أن صراع المصالح قد أرخى بظلاله المعقدة أمنيا وعسكريا على ضفة البحر الأبيض المتوسط ودوله وثقافاته من مصر وليبيا وتونس. والمغرب وما أدراك ما موقعه الطوبوغرافي وأهمية مناعته الأمنية والسياسية في المنطقة: أي مفترق طرق القارات الخمس في اتجاه أوربا، أفريقيا وآسيا.
هل هي الصدفة أم إرادة النسف مع سبق الإصرار والترصد في استهداف دول عربية شرقية ومغاربية؟ أم أن ما يقع هو امتداد طبيعي لما كان يعرف تاريخيا بجدل الاحتلال والمقاومة، والذي له علاقة مباشرة بالصراع التاريخي والحضاري بين الغرب الاستعماري الإمبريالي والوطن العربي؟ والواقع هو أن نظمه التقنية والمعلوماتية الجهنمية قد كرست حركية ارتباط جهات أو فئات محلية بقوى خارجية تشتغل بالوكالة ميدانيا لخدمة مصالحها. وإلا كيف نفسر تطورات الحركة "الاحتجاجية بالحسيمة" بالمغرب والهالة الإعلامية المهولة التي ترافقها في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا إلى فضائيات عربية مأجورة؟ وعليه لا يمكن إلا أن نسلم منذ البداية بأن كل الدول العربية مستهدفة في وحدتها وسيادتها في زمن عولمة الذي يؤثثه تدليس الصورة الإعلامية للتطبيع مع كل ما يهدد الإنسانية من عنف وقتل. فإذن لا أحد يستطيع أن ينفي حجم الدمار والتلاشي الذي لحق روافد وأسس الحضارة العربية والذاكرة الإنسانية؛ من عراق وبلاد الشام بسبب ورم ما يسمى "داعش" في العالم العربي.
حين كانت قضية قطع العلاقات في دول الخليج العربي هي القضية المهيمنة على الرأي العام، طرأت عليّ أسئلةً ملّحة -كما طرأت على الكثيرين-: ثُمّ ماذا؟ ما الحل؟ كيف تعود الوحدة الخليجية؟ كيف يُحَلّ هذا الخلاف؟!
فجاءني جوابٌ منطقيّ جدًّا لكنه ذو وقعٍ شديد، أيُعقل أن نكوّن تركيب كيميائي معقّد من العدم دون المرور بمرحلة العناصر التي أساسها نواة؟! بالطبعِ لا، فنواة دول الخليج شعوبها والفرد هو أساس الشعوب، فمن المنطق أن نتصالح نحنُ كأفراد ونتسامح ونتغافل كثيرًا قبل أن نفكر في وضع حلول لسياساتِ دول ومؤسسات!
قام الإسلام على الإصلاح والتحديث وتقويم المجتمع العربي منذ بدء الدعوة الإسلامية؛ حيث كانت الحضارة العربية والإسلامية قد بدأت تشع في الشرق والغرب، ومن ثمّ انتشرت في بلدان الغرب التي كانت تئن آنذاك تحت وطأة الفقر والجهل والتخلف. فالعروبة والإسلام وما يمثلان من حضارة ومدنية استمرا يشعان على ظلام وتخلف أوروبا لقرون كثيرة. وعلى الرغم من كل الحروب الصليبية والأوربية الحديثة في المحاولات التي كان القصد من ورائها القضاء على إنجازات الأمة العربية والإسلامية، والتي تظل شعوب العالم تنهل من علومها المتنوعة؛ في الرياضيات والعمارة والهندسة والفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة والموسيقى والطبيعيات والعلوم الإنسانية وسواها من علوم طبيعية ونظرية.
يرى العديد من دارسي النظرية السياسية أن الديمقراطية هي “إستثناء يقوم في مجتمعات إستثنائية “. ويعتمد تعريفها على ضوء هذا التحديد –حسب المفكر السياسي والسوسيولوجي الأمريكي لاري دايموند- على تصورين مفاهيميين: تصور رقيق /دقيق، يمتح من تعريف العالم الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر، والذي يعتبر الديمقراطية نظاما يسعى إلى بلوغ قرارات سياسية ينال من خلالها الأفراد سلطة اتخاذ القرار،عن طريق خوض صراع تنافسي من أجل الحصول على صوت الشعب (انتخابات حرة ونزيهة)، وهو مايشكل التعريف الاجرائي لمعنى الديمقراطية .ثم تصور سميك /عريض، ينظر إلى الديمقراطية باعتبارها مجمعا للخاصيات والقيم العامة،المتمثلة أساسا في وجود قدر كبير من الحريات الفردية والحرص على تفعيل مبدأ التعددية وتكافئ الفرص وضمان مساواة الأفراد أمام القانون وإستقلال القضاء والتأكيد على حقوق الأقليات الإثنية والدينية والعرقية وترسيخ أسس العمل المؤسساتي الشفاف الحر ووجود مجتمع مدني فاعل ومستقل وحق الأفراد في التصويت والترشح والمنافسة في الانتخابات، وهو مايمثل التحديد المؤسسي للديمقراطية . على أساس هذين التصورين المختلفين، يمكن الوقوق على نمطين من الدول- في تعاملها مع الإوالية الانتخابية- وهما الدولة الديمقراطية بالانتخابات والدولة الديمقراطية "انتخابيا" . في هذا الشأن، تتحدد درجة الدمقرطة في أي نظام سياسي حسب توافر أو غياب مختلف الشروط الموطدة لمفهوم النظام الديمقراطي الليبرالي (الدولة الديمقراطية "انتخابيا")، والذي يتموقع في منأى عن النظام الديمقراطي المزيفPseudo Democracyأو النظام التسلطي الانتخابي Electoral AuthoriatrianRegime، ( الدولة الديمقراطية بالانتخابات) .ومن ثم، تبرز أهم طرق إحلال الديمقراطية داخل المجتمعات “الإستثنائية” في توفير الظروف المواتية لبناء صرح الحكامة السياسية/الديمقراطية، وبالتالي كبح جماح مختلف العراقيل التي يمكن أن تحد من جهة، من فرص الانتقال الديمقراطي "الحقيقي" ، ومن من جهة ثانية، من امكانيات الانتقال من الدولة الديمقراطية بالانتخابات إلى الدولة الديمقراطية "انتخابيا" .
أولا: الدولة الديمقراطي بالانتخابات
الدولة الديمقراطية بالانتخابات، هي الدولة التي تضفي على نفسها أسس من الشرعنة La légitimation ،عبر إوالية الانتخابات وجعلها مطية لتحقيق المزيد من تجسيدات " السلطوية الانتخابية" أو النظام التسلطي الانتخابي وتكريس كل أبعاد مايعرف بالديمقراطية الجزئية القابعة في منأى عن أي رقابة أو تتتبع ، خاصة من طرف هيئات السلطة الرابعة (الإعلام) تنظيمات السلطة الخامسة (المجتمع المدني ) وأفراد السلطة السادسة( المواطن ). إن دعائم الدولة الديمقراطية بالانتخابات، تتمثل كدعائم "دوغمائية البنيان" وتتبلور في اطار عملية – ما يسميه المفكر النقدي والباحث الأكاديمي الراحل محمد أركون -" التنافس على المعنى"، المتسم وفق تأملات الأنظمة الماورائية الكلاسيكية، بكونه "كليا، شموليا ونهائيا"، والموطد لتلك الإرادة التعسفية الممزوجة بكل أشكال الاستبداد والسيطرة والهيمنة، والصادرة من الحاكمين تجاه المحكومين . إنها الدولة، التي تعمل بكل ما أوتيت من قوة، على جعل صناديق الاقتراع واجهة شكلية لإمتطاء صهوة المشروعية السياسية وتحويل الانتخاب-ووظيفته- كآلية ديمقراطية إلى مجرد غاية لتأثيث الواجهة الديمقراطية للدولة وتلميع صورتها أمام المنتظم الدولي ليس إلا، مع ما يرتبط بذلك، من تجسيدات "قهرية" للعبة انتخابية "منهوكة القوى"،من قبيل بلقنة الخرائط السياسية وتمييع التعددية الحزبية والتضييق على مبدأ المشاركة الفعالة والمسؤولة واستشراء الفساد الانتخابي وتفشي كل أشكال تزوير وتدليس الإرادة الشعبية... وخلق كنتيجة لذلك، مؤسسات "متخمة بالهشاشة"، أي " معطوبة" انتخابيا وفارغة تمثيليا. ومن ثم، التحول من أسس الدولنة القوية إلى معالم المأسسة الهشة، وهو مايشكل أكبر خطر محدق قد يحيق بالأساس الديمقراطي الحقيقي للدول، خاصة تلك التي مازالت تئن تحت وطأة مخاضات " الانتقال" . إن الانتخابات على هذا الصعيد، لا يمكن بالإطلاق أن تشكل الدرج الأخير لبلوغ المقصد الديمقراطي. فالديمقراطية تظل أساسا في البداية والنهاية، أملا مرتجى يتطلب الكثير من التضحيات الجسام لتحقق بعض مرتكزاته "الفضلى"، ولن يتأتى ذلك إلا بالتدرج المرحلي في صياغة القضايا الكبرى المصيرية للوطن، من قبيل الحريات والحقوق وأسس التعايش والتعاون والحياة المدنية والممارسة العملية... في هذا السياق، فالديمقراطية لم تكن يوما من الأيام مجرد نظرية صرفة. وعلى ضوء ذلك، يصبح ضربا من العبث القول، أن الانتخابات تشكل لوحدها الديمقراطية بعينها، كما لا يمكنها أن تستغرقها برمتها، وعكس ذلك سيكرس عمق المآسي التي يمكن أن تلحق بدولة من هذا النوع، أي الدولة الديمقراطية بالانتخابات، والتي ستصبح بالتالي دولة هشة بديمقراطية "اكلينيكية"، مع بروز تمظهرات حقيقية لتشوهات عميقة: إجهاض الشرعية، إضعاف المشروعيات، الضرب الصارخ في أسس التداول السلمي في تدبير الشأن العام، تفشي مظاهر الفساد السياسي، الشطط في استعمال السلطة، انتشار مظاهر اللاعقاب والصفح المجاني وغياب المحاسبة والمسألة ، إفراغ المؤسسات السياسية من الجدوى الوجودية... وبالتالي، القضاء على مستلزمات الحكامة الانتخابية الجيدة .
ثانيا: الدولة الديمقراطية انتخابيا
الدولة الديمقراطية "انتخابيا"،هي الدولة التي تعتبر فيها الانتخابات إحدى آليات التعبير عن الإرادة الشعبية المواطنة، والتي تتجسد على وجه الخصوص في الاختيار الحر والنزيه لمن سيمثل هذه الإرادة في المؤسسات الشرعية، مع جعل كل ذلك طريقا نحو تجسيد التمظهرات الأخرى للديمقراطية . ومن ثم، خلق انعكاس واضح للتوجهات السياسية المختلفة، التي تعتمل داخل أية دولة من الدول – وفق منظور David Beetham-. إنها الدولة التي ترنو أساسا، إلى ترسيخ عبر الآلية الانتخابية أواصر التلاقح والتعايش بين سائر الشرائح المكونة للمجتمع، بصرف النظر عن انتماءات أعضائها العرقية أو الجنسية أو الدينية أو الفكرية او الثقافية ... ويبقى أهم مبدأ من مبادئ هذه الدولة، هو مبدأ المواطنة الانتخابية، حيث يعرف الفرد تعريفا قانونيا، اجتماعيا وسياسيا كمواطن، أي أنه عضو في المجتمع تخول له مجموعة من الحقوق وتفرض عليه جملة من الواجبات (التصويت كحق وواجب في آن واحد). بالإضافة إلى ماسبق، إن روح الديمقراطية وكنه شرعية النظام السياسي، يرتبطان بوجود وكفاية المشاركة السياسية ، وتمكن أهمية هذه الأخيرة، في القضاء على اللامبالاة والسلبية لدى أفراد المجتمع، إذ تغرس فيهم القيم الرفيعة للمشاركة الايجابية والفعالة . كما أن من مستلزمات الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، انتظام العلاقات وتداخل الوظائف التي تشتغل في اطارها الدولة الحديثة العقلانية، ومنها الأساس التعاقدي " اختيار المواطن لمن يمثله بكل ارادة وحرية" وتبني المسطرة الانتخابية لانتقاء الأفضل ووضع الثقة فيه من منطلق التمثيل الديمقراطي الرصين المنبعث من "الانتخابات الحرة، الشفافة، النزيهة والمسؤولة" . وبذلك يشكل المدخل الانتخابي جزءا لا يتجزأ من المنظومة الديمقراطية القمينة بتحقيق مطالب التغيير وتجسيد مظاهر التحول التي يمكن أن يعرفها أي نظام سياسي قائم، عبر التوسل بانتخابات "محوكمة"- أي ذات جرعات زائدة من مقومات ومبادئ الحكامة الانتخابية الجيدة- متبوعة لزوما بتداول سلس ومرن للسلطة بين النخب الفاعلة والمعتملة في دواخل الحقل السياسي. إن كنه الديمقراطية الحقة والصلدة، يبرز بشكل جوهري، في الحرص الأكيد من دولة الديمقراطية "انتخابيا " ، على اجراء انتخابات "فعلية"، وليست "شكلية" تؤسس لتغير حقيقي في أنماط ممارسة السلطة، انتخابات سليمة ذات مصداقية، غير قابلة لأي شكل من أشكال الطعن أو النقد. إنها الانتخابات الموطدة لمأسسة مستمرة للفعل الانتخابي، عبر مختلف مساراته ومحطاته : الرئاسية، الاستفتائية، التشريعية، الترابية ...
علاوة على كل ذلك، تتوطد الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، باعتبارها دولة الديمقراطية الحقة، تتمظهر أبعادها الجوهرية في كونها دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات، دولة التعدد والتنوع بسائر تجلياته الثقافية واللغوية والدينية والفكرية والإيديولوجية، كما يمثل التداول على السلطة أساسها التكويني، من منظور أنه كنه النظام الديمقراطي القويم . إن مختلف تمظهرات الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، تتبلور أساسا في سائر معالم الانتقال الديمقراطي. إن الانتقال الديمقراطي ، باعتباره -كما يرى أستاذ العلاقات الدولية مايكل هودسون – "العملية التي تصبح عبرها ممارسة السلطة السياسية من طرف الدولة أقل تعسفا وأقل استثناء للآخرين "، تبرز ملامحه " الارهاصية" كسيرورة تاريخية متطورة، تتوخى جعل الأنظمة السياسية تتهافت على السير الحثيث نحو "الدمقرطة" وتحويل بنياتها من بنيات تسلطية إلى بنيات ديمقراطية، وتتبلور تجلياته "الكبرى" كمخاض سياسي وفكري تمر به المجتمعات على شتى الأصعدة. إن من بين أبرز مؤشرات تكريس مسارات الانتقال الديمقراطي، نجد المؤشر المعياري الموضح للعلاقة الوطيدة التي تربط الديمقراطية بقضية حقوق الإنسان، ومدى تداخل كل ذلك مع أدوار المجتمع المدني بشتى تنظيماته، ومنها التنظيمات الحقوقية . إن مفهوم الانتقال الديمقراطي من بين المفاهيم السياسية التي استأثرت أكثر من غيرها من المفاهيم، بالاهتمام والتداول، على اعتبار أن الديمقراطية هي المطلب الجوهري خلال الظرف السياسي الراهن لأية دولة من الدول، وعلى اعتبار أيضا أنها ليست سوى نمط معين لتنظيم المجتمع وربط مختلف أجزائه ومستوياته بعضها ببعض، من أجل تقوية قدرة فعل هذا المجتمع، تجاه نفسه، أي إمكاناته وطاقاته ، وتجاه محيطه الطبيعي والاجتماعي. هكذا، تمثل عملية الانتقال الديمقراطي أحد الانشغالات الأساسية في أدبيات العلوم السياسية، حيث برزت مجموعة من النماذج النظرية والأطر التحليلية التي حاولت تقديم عدة شروحات لتفسير عمق ودلالات هذه الظاهرة السياسية. فرغم تباين وجهات النظر الفكرية حول الادراكات المختلفة لمفهوم "الانتقال الديمقراطي" ، فهناك اقرار بكون هذا المفهوم يستعمل لوصف التحولات الجذرية التي تقع في نظام سياسي معين يتميز بطبيعته الشمولية . هذه التحولات، قد تتخذ أشكالا متنوعة، وتتم على مستويات مختلفة بحسب تجارب الانتقال الديمقراطي التي عرفتها بعض الدول خلال الربع الأخير من القرن الماضي، ولكن الأساسي فيها هو الانفتاح المتزايد على القوى الفاعلة داخل المجتمع ونخبه (أحزاب، نقابات، تنظيمات مدنية ... ) وعلى مطالبها الأساسية. وهذا مقابل تخلي النظام الحاكم عن احتكار السلطة ومركزة القرارات في دوائر ضيقة ، مما يخول للطاقات الفردية والجماعية أن تبرز إلى حيز الوجود وتعبر عن طموحاتها وتطلعاتها الديمقراطية. من هذا المنطلق، فإن تأمين انتقال ديمقراطي حقيقي، يتطلب انخراطا من قبل الدولة والمجتمع بمختلف نخبه السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية، الشيء الذي يوفر المناخ المناسب لتحقيق انتقال ديمقراطي مبني على أسس متينة ويتوخى ضمان الانتقالات على شتى الأصعدة مع ضرورة تجدد هذه النخب –عبر آليات الانتخابات أساسا – بشكل دوري، مرن وسلس . عموما، يجد مضمون عبارة الانتقال الديمقراطي ترجمته في مجموعة من الخصائص والمميزات ذات الطبيعة التجريبية الدالة بالملموس على تغيير فعلي في المؤسسات والقوانين وفي أساليب ممارسة السلطــة وفي علاقات الحاكمين بالمحكومين. في هذا السياق، نرى ضرورة تبلور شروط عديدة( سياسية، دستورية، قانونية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية) تمثل الحد الأدنى لدفع امكانات التطور السياسي نحو الديمقراطية، باعتبارها نظام يعرف توظيف آليات ورموز وسلوكيات وعلاقات بين مختلف النخب وتداول لإدراكات ومواقف وقيم حول النظام السياسي وأسسه الديمقراطية والتدرج ضمنها بأسلوب مرحلي هادئ. كل هذا يعني، أن الانتقال الديمقراطي هو سيرورة سياسية، تنطلق دون أن يتغيب عنها أي فاعل من الفاعلين.. إن محاولة تحديد عملية الانتقال الديمقراطي ، كسيرورة متطورة ومتجددة ، والتي أخذت تعرفها بعض التجارب السائرة في درب التحول الديمقراطي، وباعتبارها عملية الانتقالات الكبرى في شتى التجليات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والديمغرافية، تجعلنا نقف أمام ما يطرحه الانتقال الديمقراطي في عموميته، أما الانتقال الديمقراطي على مستوى بلد معين، فإن أول ما يطرحه، هو مسألة النموذج الكفيل بتحقيق طموحات الانتقال الديمقراطي (1) ،كما هو الشأن في بعض البلدان العربية- التي قامت بارساء شروط للحياة الديمقراطية ( وضع دستور للبلاد ينظم مؤسساتها، تعددية حزبية، تنظيم انتخابات دورية، الاهتمام بالمكونات المدنية... ) وغيرها من الإجراءات والمعايير التي تشكل نوعا من اعادة الترتيب للواجهة الديمقراطية للأنظمة السياسية ، دون المس بجوهرها، تماشيا مع متطلبات المد الديمقراطي العالمي وتخفيفا للظغوط الشعبية المتزايدة، وفي اطار نمط جديد من الانتقالات النادرة التي بدأت في هذه البلدان ، والتي أخذت تجرب تحولات خجولة، أي ما عبر عنه تيري كارل وفيليب شمايتر ب "الانتقالات المفروضة"(2).
ثالثا: الفرق بين الدولة الديمقراطية بالانتخابات والدولة الديمقراطية "انتخابيا":
* إذا كانت الدولة الديمقراطية بالانتخابات، تتوخى التعامل مع الديمقراطية كغاية في ذاتها، فإن الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، هي الدولة التي تبنى انتخابيا، وتجعل من الانتخابات فقط وسيلة لتحقيق مطالب أخرى سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية... * إذا كانت الدولة الديمقراطية بالانتخابات، تتأسس على قوة الإيديولوجيا، فإن ركيزة الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، هي قوة "المعنى" ، أو بالأحرى "البحث عن المعنى" أو "رهانات المعنى "، وفق الفهم الأركوني – خاصة في كتابه " الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة"- حيث تتبلور هنا، فكرة اللعبة - ما يعنينا في هذا الصدد، اللعبة الانتخابية أساسا- لعبة صيرورة العالم، الشبيهة باللعبة بالمعنى الحرفي المقصود للكلمة، والتي تخضع سيروراتها للقواعد والقوانين المتعارف عليها في اللعب، ومنها الإيمان بمنطق متغيرات الصدفة، ومايرتبط بها من عناصر من قبيل، المفاجأة وعدم التوقع أو التخمين. وكخلاصة لهذا التحليل، تبرز نتائج اللعبة الانتخابية(أحزاب تتنافس وتتصارع، بغية كسب تعاطف الناخبين واستمالة أصواتهم) كنتائج غير منجزة أو غير متوقعة تعكس بالتالي مدى حنكة ودهاء الفاعل السياسي"الفائز باللعبة"، بعد منافحته للخصم في الظفر بالنتائج الايجابية وتبوأ مراكز الحكم والقيادة .
*عكس التمظهرات الحقيقية للدولة الديمقراطية"انتخابيا"، فإن الدولة الديمقراطية بالانتخابات- وفي اطار من التناقض الصارخ- هي وجه من أوجه الدولة التسلطية أو دولة التي تمارس القهر ( حسب Philippe Droz Vincent) وثقافة الاقصاء الأفقي والعمودي مع تسويغ آلياتهما وشرعنتهما ،والتي غالبا ماتفتح الطريق لقيام الدولة البيروقراطية الحديثة ( من منظور Gjassane Salamé) مع ما تشكله هذه الدولة من تجسيدات "قهرية" تجعل من الانتخابات وسيلة للضبط والتدجين، في حين نجد، أن الدولة الديمقراطية "انتخابيا" تتتبلور كدولة تعمل جاهدة على استئصال كل أشكال القهر والاقصاء وتغييب الآخر والتحفيز على أواصر الاندماج والتعايش وتكريس سلوك المشاركة الايجابية والفعالة. ومن ثم، فهي اعلان صريح عن ميلاد ما أطلق عليه في الأدبيات الديمقراطية بالدولة الليبرالية الدستورية البرلمانية، والتي تجعل من الانتخابات آلية مؤسساتية منتجة لأبعاد الديمقراطية الحقة.
*صعوبة نضوج العوامل التاريخية الضرورية لنشوء الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، باعتبارها دولة الديمقراطية "الكاملة"، لوجود جملة من الكوابح الموضوعية التي تعيق هذا النشوء أو على الأقل تشوه بعض تواجداته "الارهاصية " ، وعلى النقيض من ذلك، يبدو الباب مفتوحا على مصراعيه أمام الدولة الديمقراطية بالانتخابات، مادامت أنها تتوخى كرهان تحقق شروط جزئية، وذلك من منظور أنها تتجلى في نهاية المسار كدولة لديمقراطية جزئية ليس إلا.
*تنشأ الدولة الديمقراطية بالانتخابات في دواخل ديمقراطية "اكلينيكية"،ميتة موتا سريريا، في حين أن الدولة الديمقراطية "انتخابيا "، تولد في أعماق مفهوم جديد، هو مفهوم الحكامة. هكذا، تنبثق "حكامة جمعية" على أنقاض "ديمقراطية منفردة"،أي ضمان انتقالية سلسلة من "أنظمة الحكم" إلى "أنظمة الحكامة"، مع ما يتبعه ذلك من ترسيخ لأسس التنمية المستدامة واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية كقيم ديمقراطية وربطها بالمبادئ الكبرى للحكامة (المشاركة، المساءلة، سيادة القانون،الفعالية والنجاعة والكفاية، المساواة والاندماج الاجتماعيين، التفاوض، التوافق والرؤية الإستراتيجية) .وهنا تجد أطروحة أرنولد توينبي مكانتها، والتي تؤكد على أن "الديمقراطية هي السوء الأقل بين الأنظمة السياسية التي عثر عليها الإنسان"، ولتتطور الفكرة لتصبح "الحكامة هي النظام الأحسن من الأنظمة التي بلورها الفكر الإنساني في ميدان التدبير في شتى تمظهراته : السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية ... "هنا تموت آلية الديمقراطية، وتزرع أعضائها/قيمها/ مداميكها في جسد جديد هو جسد الحكامة ،حيث يتم إثراء هذه الأخيرة بكل أسس وركائز الديمقراطية (التداول السلمي للسلطة والتناوب عليها انتخابات حرة وشفافة ونزيهة،التفاوض الايجابي وتدبير الاختلاف، القيام على نظام من فصل السلط وتوازنها وتعاونها، محاربة الفساد والرفع من مؤشر الشفافية، استقلال الإعلام وبلورته كسلطة رابعة، حرية التجمع والتنظيم والتعبير، خلق منظومة رفيعة لحقوق الإنسان،ترسيخ هيئات المجتمع المدني وإرساءها كسلطة خامسة، صياغة اللبنة الأساسية للدمقرطة المستمرة من مأسسة ودسترة... ) ومن ثم، تولد الحكامة كمفهوم متطور،متجدد،متعدد، يجمع كل السبل الكفيلة بالرفع من الأداء التدبيري في كل الميادين، وعلى شتى الأصعدة، كما تبرز على ضوء ذلك الدولة الديمقراطية "انتخابيا" كدولة للحكامة .
* تبلور الدولة الديمقراطية بالانتخابات، كدولة للديمقراطية المترنحة - نقصد بالترنح الديمقراطي، في اطار تحليل البراديغمات، تلك الرغبة المتوالية لدى أية دولة من الدول، في تحقيق بعض أسباب " الرخاء الديمقراطي " في إطار التعامل مع مفهوم الديمقراطية كامتياز وغياب النظرة إليه كحق- والتكريس " الخفيف" / " المحتشم " لبعض أوجه الدمقرطة.. وفي المقابل- وفي إطار ابراز الأبعاد الترنحية للديمقراطية – هناك صدمات عابرة وفجائية ... ترصد على مستوى الممارسة، تعري عن تجليات حقيقية لقصور مزمن، يمس مجمل تمظهرات الحياة الديمقراطية، حقوقيا، سياسيا،اقتصاديا، اجتماعيا ومؤسساتيا.- وهي ديمقراطية التباهي بمنجزات مترنحة ومنها " توفير الأرضية السلمية للممارسة السياسية العادية، والموطدة للمناخ الملائم لتداولية السلطة عبر تكريس النموذج الايجابي لآلية الانتخابات الدورية " والمفرزة وفق أنماط من الشفافية والمساواة، لأغلبية حاكمة، ناجمة عن مصداقية صناديق الاقتراع "- عكس خصائص الدولة الديمقراطية "انتخابيا"-ويتبلور السلوك " المترنح " لهذه الديمقراطية وعكس الادعاء الانجازي " السالف الذكر، في القيام- وبرؤية فوقية- بمقاسات نموذجية وفق إواليات الضبط والتحكم على مستوى التقطيع الانتخابي، وكذا الهيئات والمؤسسات المنبثقة عنها، والعمل على صياغة هذا الإطار، دون اللجوء إلى ميكانيزمات التشاور والتوافق بين كل الفرقاء، وبالتالي التحكم وبقوة في إحدى الشروط الضرورية للرفع من التمكين السياسي الإيجابي. صفوة القول، إذا كانت الدولة الديمقراطية بالانتخابات تتصارع مع ذاتها لتظفر بجسد "الديمقراطية"، فإن الدولة الديمقراطية "انتخابيا"، قد تمكنت فعلا من الظفر بروح "الديمقراطية". فشتان بين الثرى والثريا!
الإحالات:
(1)محمد الرضواني ، في الثقافة السياسية بالمغرب (الرباط: مطبعة المعارف الجديدة ، 2015 ) ، ص5.
محمد الرضواني ، في الثقافة السياسية بالمغرب (الرباط: مطبعة المعارف الجديدة ، 2015 ) ، ص5 محمد الرضواني ، في الثقافة السياسية بالمغرب (الرباط: مطبعة المعارف الجديدة ، 2015 ) ، ص5.. DR
(2)Philippe C. Schmitter, « Se déplaçant au Moyen-Orient et en Afrique du Nord <Transitologues> et <Consolidologues> sont-ils toujours assurés de voyager en toute sécurité ? », Traduit par Patrick Hutchinson , In :Annuaire de l’Afrique du Nord,1999, P28
يعد مركز ومدينة بسيون من مراكز محافظة الغربية التي تقع في وسط دلتا النيل بجمهورية مصر العربية، وتقع بسيون في الشمال الغربي للمحافظة، ويحدها من الشمال مدينة دسوق التابعة لمحافظة كفر الشيخ ومن الجنوب مدينة كفر الزيات التابعة لمحافظة الغربية ومن الشرق مدينة قطور التابعة لمحافظة الغربية ومن الغرب فرع رشيد ومحافظة البحيرة.
ولقد كانت بسيون منذ العصور القديمة ضاحية من ضواحي "ساو أو سايس أو صاالحجر"(#) التي أصبحت فيما بعد خلال العصور الإسلامية قرية تابعة لقسم بسيون. وتقع صا الحجر (سايس) على الضفة الشرقية (اليمنى) لفرع رشيد على بعد 7 كم شمال غرب مدينة بسيون الحالية بمحافظة الغربية، وعلى بعد حوالي 30 كم من مدينة طنطا. وقد ذكرتها المصادر المصرية القديمة باسم "ساو"، واشتهرت عند اليونانيين باسم "سايس" وفي العربية حُرِّفت إلى "صا"، ونظرا لكثرة الأحجار الأثرية بها أضيفت لها كلمة (الحجر) فعرفت باسم صا الحجر. وكان إقليم "ساو" هو الإقليم الخامس من أقاليم الدلتا (@) في العصور الفرعونية القديمة ويسمى في المصرية القديمة "نت محيت" أي إقليم الغرب تمييزا له عن الإقليم الرابع الذي يقع في جنوبه ويسمى "نت رس" أي إقليم الجنوب والذي كان تابعا له.