مهما كانت النتائج التي ستتمخض عنها هذه الثورة الليبية، فإن تصرفات النظام الليبي في مواجهة ثورة شعبه، لم تخرج في خطها العام عن خطة "الانسحاب الحربية"، والتي نفذتها بدرجات متفاوتة كل من السلطات التونسية ثم المصرية بحق الشعبين التونسي والمصري. لكن عناصر التنظيم والوعي والتحضر السياسي والمفاجأة بالنسبة للشعب التونسي، ودعم الإعلامين العربي والغربي والهندسة التعبوية والمراهنة على الملايين بالنسبة للشعب المصري، لعبت دورا مفصليا في نجاح الثورتين في مواجهة أنظمة تتعامل مع الشعوب وكأنها مجموعات من القطعان في أرض يعتبرونها ملكا شخصيا لهم ولعائلاتهم، وكأننا نعيش في أوربة القرون الوسطى المغرقة في التخلف والسقوط والإجرام!
إن لم يفعل هؤلاء "الزعماء" شيئا إلا الإعلان عن كلماتهم المرتقبة، وترك الشارع ينتظرهم حتى ساعات متأخرة من الليل، ليطلعوا علينا بالعجائب المخزية الخسيسة، لكفاهم! فهم إن وعدوا أخلفوا، وإن خاصموا فجروا، وإن حدثوا كذبوا! لكن المشهد الليبي ترك للأ مة هذا الحدث الفريد من تاريخ ال"الجملوكيات" – كما سماها المفكر السوري خالص جلبي- والذي يتمثل في خروج ابن "الزعيم"– كموسولينيٍ مجنونٍ مُصغر-، يتهدد ويتوعد برعونة، وصفاقة، وليتحدث عبر ثلاثة فضائيات عربية – على الأقل- رافعا سبابته تلك بالويل والثبور لمن لايريد الانصياع لرأيه والقبول بال..."الإصلاحات"، والتي منها "الجلوس للتفكير في دستور للبلد" !، الذي مافتيء يُحكم منذ أربعين عاما دون دستور، ولا دولة، ولاجيش، ولا بنى تحتية، ولا أمن، ولا نظام، ولا إنسانية، والذي تمّت عملية توزيع ثرواته وسلطاته على أبناء الزعيم وأفراد أسرته! حالة عربية تسود أرجاء المنطقة، التي أصبحت مقاطعات مشاعة لهذه الأسر، يذبحون أبناءها ويستبيحون ثرواتها!
استخدمت الولايات المتحدة الأميركية قبل أيام حق النقض"الفيتو" مقابل إجماع الأعضاء الدائمين وغير الدائمين في مجلس الأمن ضد المشروع العربي بإدانة الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكانت أربع عشرة دولة هي مجموع دول مجلس الأمن الدائمة وغير الدائمة قد أيدت المشروع العربي الذي طالب بوقف كافة المشاريع الإستيطانية الإسرائيلية في الضفة الفلسطينية المحتلة والقدس.
لم تجد الولايات المتحدة الأميركية أية صعوبة في تبرير هذا الموقف المعادي للقضية الفلسطينية. إن إسرائيل حليف إستراتيجي للولايات المتحدة ولا يمكن أن تخذلها، أو أن تقف ضدها في الحافل الدولية.
لقد وقف الفلسطينيون ومعهم العرب الشرفاء ضد كل أشكال الإستيطان التي قامت على أراض اغتصبها المستوطنون من أصحابها الشرعيين. ويأتي هذا الفيتو الأميركي ليشرعن هذا الإغتصاب، ويمنحه ضوءا أخضر، ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن السياسات الأميركية تؤيد اغتصاب الأراضي وإقامة المستوطنات عليها، وفي ذات السياق بناء جدار الفصل العنصري.
بارك الله في شباب الأمة، هذا الجيل الأبيّ، الذي أبى الرضى باستمرارالذل والمهانة، ومعاملة الإنسان على أنه دابة أو جرثومة في أرض الحضارات والرسالات السماوية، وأبى أن تستمر الأحوال في هذه الأمة على ماكانت عليه، من التعامل مع المواطن وكأنه مخلوق في قطيع يتوارثه الطغاة أباً عن جد، لارأي ولامشورة ولا مشاركة ولاحرية ولاكرامة، وأبى أن يسكت على الظلم والفساد، وسرقة مقدرات وأموال منطقة تعتبر من أغنى مناطق الأرض،بينما تعيش الغالبية العظمى من مواطنيها تحت خط الفقرفي ذل وتخلف وإقصاء وعبودبة، ويستمر نزيفها البشري هجرة ونزوحا طلبا للخلاص، كما استفاد من الثقافة العالية التي توفرت لمن أراد، في عصر العولمة والمعلوماتية، وجمهوريات الأمن المقامة في العوالم الانترنيتية.
لعلّنا الآن أحوج من أي وقت مضى لنجمع ابرع مهندسي العمارة ومديري المشاريع الإسكانية وأعظم الرسامين والبنائين وأصحاب الذوق الرفيع في البناء ولا ضير إن سرقنا بضع تصاميم من هنا وهناك وقليلاً من التقليد الأوروبي لنبني قصر ضيافة فخماً ،، ونجعل بوابته ذهبية منمّقة تسرّ الناظرين وحوله الحدائق الغنّاء ونواعير الماء وزهور من شتى الأنواع والألوان وحارساً كهلاً لا عمل ولا فعل لديه سوى فتح البوابة وإغلاقها بعد كل زائر ، ليقول مع كل قرع للجرس أو يد هاوية : من بالباب ؟ ،، ليطلّ عليه رئيس مخلوع جديد أو حاكم لم يستطع أن يخرج مخرجاً مشرّفاً أنيقاً بعض الشيء من بلاده تاركاً وراءه كرسياً خشبياً نخرت فيه أصغر حشرات الكون ولم يكن معتليه ليخجل من ثقل وزنه والتنحّي عن عرشه الدنيوي ليريح شعباً أثخنته جراح وآلام وطعنات الظلاّم !! ،، بل سار ولاة الأمر في درب بعيد مخلّفين ورائهم دروباً لو كانوا مشوا فيها لجنّبوا أنفسهم عناء العودة المخزية ، التي حظي بها كل منهم أو سيحظى !!
منذ سنوات أواسط القرن العشرين المنصرم، وهي السنوات التي بدأ العالم العربي بالإستقلال عن كل من بريطانيا وفرنسا، لم تشهد الأمة العربية تغييرا جذريا في هيكلية مؤسساتها. لقد كان التغيير شكليا، وبخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات السياسية، وتحديدا الأنظمة السياسية.
تحت ظلال هذه الأنظمة العربية السياسية، عاش المواطن العربي زاحفا لاهثا وراء تحصيل لقمة عيشه، وحبة الدواء لمريضه، وقسط من التعليم لأبنائه الذين قدر لهم أن يتعلموا، وأما أولئك الذين لم يكتب لهم أن يتعلموا، وهم كثر، فظلوا رهينة الجهل والأمية والفقر المدقع.
إلا أن منظومة لقمة العيش، وحبة الدواء، وهذا القسط من التعليم، وارتفاع مستوى البطالة التي تنتمي إلى الوضع الإقتصادي السائد في معظم أقطار العالم العربي باستثناء القلة، ليست هي الحدود التي تنتهي عندها مشكلات العالم العربي والإنسان العربي. ثمة مشكلات سياسية خطيرة هي الأخرى، لا تقل خطورة عن المنظومة آنفة الذكر.
إن الغيبوبة السياسية العربية قد انتهت. لقد عاد الوعي وتغلغلت روح تونس في النفس العربية. إن الطغاة ترتجف منهم الركب في كل أنحاء الوطن العربي من أقصاة إلى أقصاه. وليس العرب فقط الذين تتم مراجعة أولوياتهم والتفكير في مستقبلهم . ولكن أيضا الكيان الصهيوني ، بعد أن نخر عظام الأنظمة ودبت الفرقة بين الأشقاء، الآن يحق له أن يقلق من الصحوة العربية.
فما الذي حدث؟ ولماذا يحدث؟ وما هي الظروف الموضوعية التي أدت وتؤدي وستؤدي لمثل هذه الثورات؟ وفيما يلي وصف للظروف التي يحتمل أن تخلق بيئة مواتية لمثل هذه الثورات الشعبية.
أولا وقبل كل شيء هي الظروف الاقتصادية السيئة التي تعيشها وتعاني منها معظم الشعوب العربية إن لم يكن كلها. في عصرنا هذا الشرط من السهل الوفاء به. هناك مناطق كثيرة من العالم حيث الاقتصادات الراكدة، مرتهنة من قبل المنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، غير قادرة على إطعام الأعداد المتزايدة من السكان، والأهم من ذلك ، غير قادرة على توظيف الأعداد المتزايدة من الشباب، بما في ذلك المتعلمين من الطبقة الوسطى تعليما عاليا. وفي عصر الاتصالات الفورية في جميع أنحاء العالم، لا أحد يعتقد حقا أن مثل هذه الظروف هي الأمور التي تسود وتنتشر. لقد كان محمد البوعزيزي، الشاب الذي، من خلال فعل التضحية بالنفس، أشعل الثورة التي أسقطت دكتاتور تونس، والاستجابة لسنوات من الإحباط الاقتصادي.
1- الحرية والكرامة: يجب أن يكون المواطن كامل الحرية والكرامة في وطنه، ولا يتأتى ذلك سوى بإلغاء النظام الرئاسي، وإعطاء الرئيس دورًا تشريفيًا هامشيأ كما هو الحال في لبنان وإيطاليا وألمانيا. وانتخاب الرئيس من قبل مجلس الشعب المنتخب. وتكون كل السلطات لرئيس الوزراء المنتخب بالأكثرية من قبل مجلس الشعب. وانتخابات مجلس الشعب يجب أن تكون نزيهة ودقيقة وشفافة وتحت إشراف قضائي ومجتمعي كامل.
2- تأكيد الهوية العربية الأسلامية: فلا مجال بعد الآن لتضييع عمر الأمة والحيرة في الهوية بين العلمانمية والفرعونية والأفريقية أو المتوسطية. فنحن شعب عربي واللغة العربية مقدسة ويجب تفرض على كل صعيد في الدولة. وتتم إنشاء هيئة كبرى فعالة لنقل أكبر كم من الانتاج العلمي والأدبي العالمي للغة العربية أول بأول. كما أننا شعب مسلم نريد حكومة مدنية كاملة بمرجعية إسلامية بحيث لا تكون فيها أية قوانين تتعارض مع الشريعة الأسلامية.
الصفحة 13 من 104