قلبي ينادي حين لات مجيبُ ** فلقد دهته نوازلٌ وخطوبُ
يا صوتَ مجروحِ الفؤادِ ترفقي ** فبكل حرف تنطقين نحيبُ
واهمي على ولهي بزخات الهوى ** فربيع قلبي صائف وجديبُ
أنت التي أشعلت نصف بلاغتي ** وأنا بحرفك شاعر وأديبُ
وداعاً أيها الطَّلَلُ
وداعاً كلُّهُ وجَلُ
وداعاً لم يكنْ بدَلُ
لهُ إذ عُدَّتِ السُّبُلُ
إِنَّ أَوْفى النّاسِ مُلازَمَةً لِلشِّعْرِ هوَ مَنْ أَسْلَمَ يَقينَهُ إِلى عَناءِ هَذِهِ الدُّنْيا، وَما هوَ إِلّا شَتاتٌ.. أَمّا ما يَمَسُّ الإِنْسانَ مِنَ الأَلَمِ فَلا يَشْفيهِ غَيْرُ وَثاقَةِ عَهْدِهِ بِرَحْمَةِ اللهِ تَعالى.
لا أَجِدُ عُذْراً لِمَنْ لا يَسْتَعْذِبُ الشِّعْرَ العَموديَّ إِذا كانَ لا يَسْتَطيعُ لِفَهْمِهِ سَبيلاً في عَصْرِنا هَذا، لَكِنَّها المَعاني إِذا أَدْرَكْتَها فَلَنْ تَنْضُبَ، وَإِنْ صاحَبْتَها لَمْ تَخاصِمْ.
إِنَّ الشِّعْرَ وجْدانٌ حَيٌّ، وَبَيانٌ كافٍ، لِأَنَّ جَوْهَرَهُ رَحيقُ الإِحْساسِ، أَمّا عادَةُ العَجَلَةِ فَهيَ دولابُ البَشَريَّةِ الَّذي لَمْ يَسَعِ الإِنْسانَ ضَبْطُهُ.
ذلك البيت لم ترض روحي أن تبرح حتى تبلغ مَجمعَه أو تمضيَ حُقُباً، خرَّ سقفُه وتداعت جدرانه.. ففاضت نفسي عندما رأيت صورته لما كان فيه من ذكريات الطفولة ومراتع الصبا، ولما حضرني من حديث جدرانه عن ذكريات من عاشوا فيه وسبقوني إلى الدار الآخرة، فقلت:
أَلا اسكُبْ بِـ بيتَ الجَنِّ دمعَ الجَوى رِيّا *** وسَائلْ حَمامَ الدَّارِ إمَّا يكنْ حَيّا
أيحفظُ مِنْ وَجْهِ الأحبَّةِ صُورةً *** لِنارٍ بذِكْرِ الدَّارِ قدْ أُضْرِمَتْ فِيّا؟
أمَا زالَ في السَّاحاتِ وَعْدُ رُجوعِهم *** أَمِ اسْتَوحشَ البُنيانُ إنساً وجنّيّا؟
لَا أحَدَ، لَا أَحَدَ غَيرُهُ يُجيدُ الحَديثَ بِهذَا التَّدَفُّقِ.
كَانَ لِتَعلُّقي بِهِ كَإنسَانٍ قبْلَ أَنْ يَكونَ أَباً بَالِغُ الأَثَرِ في وُجْدَانيَ العَاطِفِيِّ والأَدَبِيِّ.
كُنْتُ شَديدَةَ التَعلُّقِ بِأفْكَارهِ العَميقَةِ وجَزالَتِهِ التي تُبْحِرُ في جَنَباتِ نَفْسِي.
كَانَ وَفاؤُهُ وإخْلاصُهُ وكَذلكَ مَودَّتُهُ ما يَسْتَثيرُ قِلَّةَ الحَدِيثِ عِنْدي وَأحيَاناً الصَّمْتَ. كَانَتِ اللُّغةُ العَربيَّةُ الفُصْحى تَطْغى عَلى انفِعَالاتِهِ الكَلامِيَّةِ مِمّا أثْرى رَوعَةَ الأحَاسِيسِ بِالأُسلوبِ في مُخالَطةٍ فَريدَةٍ.
كَانَ -إِذا غَضِبَ- صَوتاً يأْمُرُ الدُّنْيا للتَّعْبيرِ عنْ بَصيرةٍ وفَهمٍ وَكَأنّهُ حِرْزٌ مَكْتومٌ انْطَلقَ مِنَ القَلْبِ دُونَ قَيدٍ أوْ شَرْطٍ. كَانَ ذَكيّاً وَمُقْنِعاً حتَّى تَداعَى الرِّجالُ لِلاسْتِماعِ لِحديثِهِ.
كَانَ لَاذِعاً ونَاقِداً في مُفردَاتِهِ وذَلكَ لِعنايَتِهِ بِاستقَامَةِ النُّبْلِ والعَطاءِ.
لَا لِفَضْلي مَكانٌ في امْتِدادِ الوَريدِ النَّابِضِ الّذي رَوَّانِي بِصِدْقِ تَعبيرِهِ وَتَدَفُّقِ حَنانِهِ.. وَإنّني أَرْجُو فِيما أَرْجُو أَنَّني قَدْ وَفَّيتُهُ بَعضاً مِنْ حقٍّ لهُ عَليَّ وأنَا أطْريهِ بذِكْرِهِ المُتَّقدِ في كيَانِي كَالياقُوتَةِ الحَمْراءِ.
ليس في قلبي خيالٌ يتهادَى جانباهْ
أنتِ فيه، أنتِ، لا ذكراكِ، من نبْعِ مُناهْ
لستِ من ماضٍ وما وجهُكِ رسْماً لا يراهْ
أنت خفقٌ ولُبابٌ وترانيمُ حياهْ
فإذا عنكِ سها في خفقةٍ كانَ انتهاهْ
يا حبيباً راحَ عني نائيَ الدارِ بعيدا
لم تكن أيامُنا إذ أقبلتْ إلا نشيدا
كم أعدْناهُ وقلنا يومُنا طارَ سعيدا
وحلَمنا، لم يُصِبْ خاطرَنا حُلمٌ سواهْ
وصحَوْنا فلقِينا ما حَوَالَينا فلاهْ
يومَ ناديتِ اسْتفاقتْ عبَراتُ الاشْتياقْ
ولسانُ الوجْدِ ما غادرَ أوجاعَ الفراقْ
وشكَونا من زمانٍ نَصْلُ أسهُمِه احْتراقْ
شبَّ في الجرحِ أنينٌ، والجَوَى بعضُ صَداهْ
وبدت ساعاتُنا دقاتِها لهْفاً وآهْ
أيها القلبُ تأمّلْ، قد دنا كنْزُ الجمالْ
أيَرَى خفقُكَ طُوباهُ بأوصابِ الوصالْ
أيُّ وصلٍ هانئٌ والوصلُ إمّا تمَّ زالْ
فإذا أنتَ كطيرٍ تاهَ في دربِ سمَاهْ
وإذا الشَّريانُ محمولٌ على ما قد جَناهْ
في الذكرى الأولى للعيد الوطني لسلطنة عُمان: حضر التاريخ وغاب الرمز، لكنّ العظماء لا يرحلون
إن التاريخ يُحفر في أعماق الشعوب بأيدي الكرماء وشرف مواقفهم وإخلاص جهودهم.
أكرم الله مُنزَل السلطان الراحل قابوس بن سعيد البوسعيدي، ذلك الرمز الذي رحل بجسده وظلّت روحه متطلّعةً على غراس أشجاره المباركة تُثمر خيراً على كلّ وقتٍ وحين.
رحل السلطان قابوس، وبقي رمزاً لسلطنة عمان الذي لا يغيب ولن يغيب، فالرموز لا تغيب، إنمّا هي الأجساد التي ترحل، وتبقى الأرواح المخلصة معلّقةً متطلّعةً على قناديل الوطن المتقدة للعمل على إكمال الأمانة.
الصفحة 3 من 69