أيومَك تختارُ أمْ ما مضَى
وأيُّهُما الظَّهْرُ كي تَنْهضا؟
يقولون: ما فاتَ خيطُ خيالٍ
تآكلَهُ العُمْرُ ثمَّ انْقضَى
زوَى وجهَهُ لم يُبالِ إذا
جرى ماءُ عينيكَ حتى نضَا
فيومُك أولَى بوصْلٍ وقد
تفتَّتَ أمْسُكَ أو أعْرَضا
يقولون هذا ولم يَعلموا
لأمسيْ إضاءةَ نارِ الغَضى
ولم يعْلموهُ وحيدَ الزمانِ
فريدَ الصَّدى في رحاب الفضا
وإكْسيرَ بخْتٍ لمن حازَهُ
يصِيرُ السَّوادُ بهِ أبْيَضا
ولم يَجدوا فيه مثلَ الذي
وجدتُ وأَبقَى الهَنا مُومِضا
ولو وجدوهُ لظلُّوا لهُ
بِدارَةِ أمسِهمُ رُكّضا
وفي غفلةٍ سارَ مِسْكُ الهواء
ومَرْهمُ جَفنَينِ إنْ أغْمَضا
وأبقَى عليَّ غريباً وراحَ
ببَلْسَمِ نفْسي وسِرِّ الرِّضَا
فغادرتُ أمسي كما غادروا
وأعْجَزَني القلبُ أنْ ينْبضا
يا راحلِينَ إلى الحبيبِ بِطَيْبةٍ
هاكُمْ فؤادي فاحْمِلوهُ إليهِ
إنّي لأستحْيِي النُّزولَ بدارهِ
ومَدارِكي لا تقْتَفي وحْيَيهِ
وأنا الذي زعَمَ المحبةَ بينما
صوبَ اللِذاذِ يُقادُ من رِجلَيهِ
وأنا الذي كالبحر ِ وجْهٌ ساكنٌ
تتلاطمُ الأهواءُ في جَنْبَيهِ
يا راحلِينَ خُذوا الفؤادَ لعلّهُ
في طَيْبةٍ يُجْلى عَمَى عينَيهِ
شُدُّوا عليهِ راقِبوهُ إنهُ
عاصٍ ويسْتحْلي دوامَ التَّيهِ
إن غِرَّةٌ لاحتْ تلقّفَها وما
يبقى سوى الوَسْواسِ في سمْعَيهِ
لا يستقيمُ على الطريقةِ، سالكٌ
درْباً يَعافُ الرُّشدَ من أمْرَيهِ
لا تتركوهُ غيرَ أن تصِلُوا بهِ
ولدَى الحبيبِ تَرَوْهُ بيْنَ يدَيهِ
ثمَّ انْظروا أيَتوبُ، هل يُدْعَى لهُ،
أم قولُهُ سيَضِيقُ في رئتَيهِ
وابْدُوا له عَوناً عسَاهُ يرعَوي
من قبلِ ما يَلْوي الرَّدَى ساقَيْهِ
من قبلِ أنْ ( ربِّ ارْجعونِ) حسرةً
تَغدُو ورهنَ الحبسِْ في شَفَتَيْهِ
زارني طيفٌ حبيبُ وجْهُهُ أُنْسٌ وطِيبُ
جاءَ، ما أفزَعَهُ شرٌّ حَوالَيهِ قريبُ
ودَنا، في مُقلَتيهِ رُسُلُ الوصْلِ سَكوبُ
مَدّ لي كفَّينِ كانتْ فيهما رُوحي تذوبُ
بهما لامَسَني حتى بدَتْ نفْسي تثُوبُ
قال أهلاً، واكْتفَى ما زادَنِي حَرْفاً، غريبُ
قلتُ مَرحَى أنتَ للرُّوحِ سَقامٌ وطبيبُ
أنتَ في عينيَّ دَوماً لا تُغشّيكَ الغُيوبُ
أنتَ نبراسٌ لدُنيايَ التي فيها أجُوبُ
وإذا قلتَ نمَا نبْضي فتلْقاني الدُّروبُ
قالَ إنَّ البُعدَ أعْياني وما ثَمَّ هروبُ
وكَوَى قلبيَ حتى جفَّ في قلبي الكُروبُ
وطعِمتُ المُرَّ حتى لم يعُدْ حُلْواً عَذيبُ
إنني مثلُكَ، عن رؤياكَ عَينيْ لا تَتوبُ
غيرَ أنْ ليسَ لقاءٌ لا يُواريهِ الغُروبُ
ولئِنْ جادتْ بهِ الصَّحْوةُ فالحَظُّ عجيبُ!
إسلامنا كالنورِ للحدقِ
نرجوه في ليلٍ بلا فلقِ
نشتاقه شمسا وقد نهضت
في بوحها من ظلمة الأفقِ
إسلامنا بالحقّ منتشرٌ
ما كان في يومٍ على ورقِ
بغِنوة وافانيَ الرَّسولُ
ما فاتَ لا أنسَى ولا يؤولُ
أيامنا تجري به والأسى
مستعرٌ وعبرةٌ هطولُ
وكنتُ في ليلي على جمرةٍ
تقلُّبي وحسرةٍ تطولُ
وإنْ بدا الصبحُ طويتُ الذي
أسررْتُهُ، سكتُّ لا أقولُ
وحُمِّل الفؤادُ ما لم تكن
تحملُه الشمُّ ولا السهولُ
الآن تأتي؟! (لسّهْ فاكرْ)؟ وهل
تحسبُ قلبي عنكَ لا يميلُ؟
تحسبُني ولْهَى وملهوفةً
وما بدا يبقى ولا يزولُ؟
ليس الذي ولّى سوى صَرّةٍ
لذكرياتٍ ظلُّها هزيلُ
************
أجلْ! فما زلتُ، وما كان في
قلبيَ سهْوٌ عنكِ أو ذهولُ
كنتِ أليفي وجليسي وما
من أحدٍ غيرُكِ لي خليلُ
فاسمُكِ أُنْسي وصفيِّي ولو
نأى مقامي بي أو الرحيلُ
أنتِ عبيرُ الزادِ، أنتِ التي
في الكأسِ يزهو طيفُكِ الكحيلُ
كنتِ معي لم تغِبي لحظةً
كنتِ رفيقاً حيثما أجولُ
كان حديثي لكِ همْساً وكم
ضجّ لساني فدرى عذولُ
فظنَّ بي جهالةً أو حقاً
بأنني المجنونُ أو جميلُ
إن الذي لاقَيتِ قد ذقتُهُ
ما رمَّه النسيانُ والأفولُ
وإنني ما زلت ظامي الحشا
لا برَدٌ يَشْفي ولا بَليلُ
كان عيداً إنْ حَيِيْنا أو تَمشَّينا معاْ
أو شذا رَيّاكِ سرَّى عن فؤادي الوجَعا
أو طريقٌ جادَ بالصُّدفةِ كي نجتمِعا
كان عيداً إذ أتى صوتُكِ يَنفي الجزَعا
يهَبُ الرِّفْقَ ويُسلِي ويداري الولَعا
فبهِ أزهَرَ عُوْدي وبهِ قلبي وعَى
وانجلتْ نفسي صفاءً وعيوني لُمَّعا
وبهِ وهو ينادي اْسْميَ همّي ارْتفعا
كان صوتاً فتوارَى والرَّجا ما سمِعا
راحَ، ما سكَّنَ رَوْعي، لمَّ شَمْلي قَطَّعا
أفلتتْ رجْلايَ درْبي، ضِقتُ فيما اتَّسعا
صارت الغُصّةُ طُعْمي والشَّجا لي مَرْتعا
فإذا عمْري ذوَى والحَينُ أدنَى أوْ دَعا
راعَني صوتٌ! أَذَا كان اضْطرابي نزَعا؟
ألَهُ أن يلأمَ الوجْدَ الذي قد مُزِّعا؟
يرْتقُ السّالِفَ والآتيَ فيما ضَيّعا؟
إنْ يكن ذاك لذِكرىً كيف لي أنْ أصنعا
أو لودٍّ فزماني قد مضى وانْقطَعا
نكأ الصوتُ جراحاتي وسِرّي أطْلَعا
أتراني مُستجيبَ الحالِ أم ممتنِعا؟
ويعصفُ بي حنينٌ واشْتياقٌ
فأقطعُ عنهما فيضَ الكلامِ
رُويدَكما اسْتُرا مكنونَ صدري
فخطْوي للحِمامِ بلا لِجامِ
وكيف تُجاهرانِ بما تخفَّى
خفاءً كان حتى عن عظامي
وما عاد الزمانُ زمانَ وصلٍ
لكي تُرجَى معاودةُ الوئامِ
فيختبآنِ في الجفْن احْتشاماً
وينطلقانِ في جوفِ الظلامِ
وأبقى أشربُ الذكرى وحيداً
يسامرني خيالي أو منامي
ومنها أستعيدُ مَعينَ قلبي
سليمَ البالِ من وجَعِ المَلامِ
وأمضي أنسجُ الأحلامَ لكنْ
يمزّقُها مُحالُ الالتئامِ
فما في البُعْد إبلالٌ ورَوحٌ
ولا في القُرْب إرواءُ الهُيامِ
ولَلنسيانُ والتّذكارُ إلْفٌ
سواءٌ في مكابدة السَّقامِ
أعيشُ ولا أعيشُ فكلُّ يومٍ
دقائقُه سِنونٌ من ضِرامِ
الصفحة 5 من 69