كثر الحديث في هذا العصر عن مقاصد الشريعة وتأويلاتها وكيف يمكن التعامل مع نصوص الشريعة وتنزيلاتها على الواقع.
وهذا تعريف مختصر وإجمالي لعلم مقاصد الشريعة وتاريخه.
أولا : تعريف مقاصد الشريعة.
- لغة:
المقاصد من "القصد: استقامة الطريق. قَصَد يقصد قصداً، فهو قاصِد. وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾[سورة النحل، الآية:9]، أي على الله تَبْيينُ الطريق المستقيم، والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة؛ ﴿وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾ [سورة النحل، الآية:9]، أي ومنها طريق غير قاصد. وطريق قاصد: سهل مستقيم. وسفر قالصد: سهل قريب...والقصد: العدل."[1]
وكذلك "القصد: استقامة الطريق، والاعتماد، والأَمُّ، قَصَدَه، وله، وإليه، يقصده"[2]
لقد أرست الشريعة الإسلامية القواعد الأخلاقية للتعامل مع غير المسلمين من أبناء الدولة والمقيمين على أرضها، فلم تنكر الشريعة الإسلامية على مواطنيها من غير المسلمين حقاً لهم، فقررت أن لهم ما للمسلمين، وأن عليهم ما على المسلمين، فالجار له حقوق الجوار، والصاحب له حقوق الصحبة، والقريب له حقوق القرابة.. وهكذا.
ونود أن نوضح أننا لا نقصد بالمواطنين غير المسلمين أهل الكتاب من اليهود أو النصارى فقط؛ وإنما يتعداهم القصد إلى كل من ليس له ملة ولا يدين بدين، فهؤلاء يعاملون معاملة أهل الكتاب، فقد روي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ)[2] .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ظلم غير المسلمين، أو انتقاص حقوقهم، أو الإخلال بواجب العدل فيهم، فقد روي عن صفوان بن سُلَيْمٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِداً[3]، أَو انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ[4] يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[5] .
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[1]
لقد جاء نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بشريعة غراء سمحة، من أعظم أهدافها نشر الفضيلة والأخلاق، والسمو بالإنسان بتهذيب سلوكه وطباعه وعاداته للوصول به إلى أعلى مراتب الرقي الأخلاقي، حتى يكون أهلا لتكريم المولى جل وعلا له، فقال تعالى :
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[2]
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة والتراحم فيما بيننا، حتى لا يأكل القوي الضعيف ويحكمنا قانون الغابة الذي لا يعترف إلا بالقوة، ولا رحمة فيه ولا شفقة!! وهو ما يتنافى بالكلية مع المجتمع الإسلامي الذي يعطف فيه الغني على الفقير، ويرحم فيه القوي الضعيف ويوقر فيه الصغير الكبير، فقد روي عن أنس بن مالك قال: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا)[3]
أعترف بأني أدهش كثيرا حينما أصادف من لا يزال يؤمن بالروايات التي طالها التحريف في حوادث تحدّث عنها القرآن صراحة. واللافت أن هذه الحوادث غالبا ما تكون المرأة معنية بها.
وأتذكر أني حينما كنت صغيرة، سمعت من طفلة أخرى تكبرني ببضع سنين حكاية ابني آدم قابيل وهابيل. إذ أخبرتني الطفلة أن الشقيقين تعاركا على فتاة جميلة، إذ لم يكن هناك في العالم إلا فتاة جميلة وأخرى قبيحة. وأتذكر جيدا أن الأمر أقلقني جدا وسألتها "وفي النهاية من تزوج الفتاة الجميلة؟" فطمأنتني أن الأخ الطيّب نالها.
كانت هذه الرواية راسخة في ذهني باعتبارها قصة فكاهية من القصص الخرافية التي يختلقها الأطفال ويتداولونها. ونسيتها بفعل الزمن، وبفعل أنها من بنات الخيال الطفولي الذي نشأ على قصص الجميلات اللائي يتزوجن الأمراء الطيبين، ولكون الرواية القرآنية للحادثة قد حلّت محلها.
في التعريف اللغوي للحكمة كما في القاموس؛ "الحكمة بالكسر: العدل، والعلم، والحِلم، والنبوَّة، والقرآن، والإنجيل. وأحكمه: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد، كحكمه حكما"[1].
وبالنصب "(الحَكَمَة) وزَانُ قَصَبَة للدابة سُمِّيت بذلك لأنها تذلِّلها لراكبها حتى تمنعها الجِماح ونحوَه، ومنه اشتقاق (الحِكمة) لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال"[2]. وكذلك "الحكمة: العدل. ورجل حكيم: عدل حكيم. وأحكم الأمر أتقنه... والحكيم: المتقن للأمور"[3]. وأيضا "الحكمة: وضع الشيء في موضعه"[4]، و"الحكمة من العلم، والحكيم العالم وصاحب الحكمة. والحكيم أيضا المتقن للأمور"[5]. و"الحكمة: علم يُبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقَدْر الطاقة البشرية، فهي علم نظري غير آليّ"[6].
تلقيت رسالة من أحد أصدقائي الجهابذة في اللغة العربية، مقولة منسوبة إلى داعية إسلامي معروف وهو إلى ذلك أستاذ بإحدى الجامعات، ومفاد هذه المقولة أنه من الخطأ الشائع أن نقول (نِعم الله لا تُعد ولا تُحصى) وأضاف قائلا - أي الداعية - إن الصواب أن نقول إن (نِعم الله تُعد ولا تُحصى) ودليله على ذلك، قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [إبراهيم، 18]، وأضاف الداعية قائلا: (فقد أثبت الله العد ونفى الإحصاء). انتهى الكلام المنسوب للداعية، وقد سألني صديقي عن رأيي في هذا الكلام ومدى موافقتي له.
فقلت : بداية ينبغي التأكد من نسبة هذا الكلام إلى الداعية المعروف الذي هو أستاذ جامعي متخصص في مجال الشريعة ولاشك أنه أعلم مني بالتفسير. وأضفت: ولكن رأيي الشخصي على هذا الكلام أنه غير دقيق لعدة أسباب؛ منها: أن العد والإحصاء في اللغة هما بمعنى واحد. قال تعالى (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم، 94]. وبهذا جاءت المعاجم، إذ يقول ابن منظور في (لسان العرب) مادة (عدد): (العَدُّ: إِحْصاءُ الشيءِ، عَدَّه يَعُدُّه عَدّاً وتَعْداداً وعَدَّةً وعَدَّدَه). وقال في مادة (حصي): (والإحْصاءُ العَدُّ والحِفْظ). وقال الألوسي في (روح المعاني) في تفسير الآية السابقة [مريم، 94]: (وأصل الإحصاء العد بالحصى فإن العرب كانوا يعتمدونه في العد ثم استعمل لمطلق العد).
من البديهي القول بعدم خلوّ مجتمع من المجتمعات من الجريمة، ذلك أن الجريمة قديمة قدم الإنسان على الأرض، فأينما وجد البشر وجدت الجريمة، ولا يوجد مجتمع من المجتمعات إلا وبه جرائم وإن تفاوتت درجة وعددا تبعاً لاختلاف الظروف والمكان والزمان، ولو كان من الممكن وجود مجتمع بلا جريمة لكان وبلا شكّ مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده مجتمع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، لكن ورغم نقاء وتقوى وعفّة ذلك المجتمع فقد وجـدت فيـه بعض الجـرائم مع اختلاف أنـواعها.
الصفحة 7 من 17